مفكرون وأدباء وكتّاب كثيرون في تاريخنا العربي المعاصر، غير أننا ننظر إلى كثير منهم بعين الريبة، ذلك لأنهم خلطوا في أفكارهم بين قليل من الإسلامية وكثير من العلمانية، ومالوا في أدبهم وكتاباتهم إلى الغرب والشرق أكثر مما مالوا إلى أمتهم وتاريخهم وتراثهم.
وعندما أقول: ننظر إلى كثير منهم، فأنا أقصد أننا ننظر إليهم نحن الإسلاميين.. المسلمين المؤمنين بدينهم عقيدة وشريعة ومشروعًا حضاريًا.
ولقد أنعم الله علينا نحن الإسلاميين بكثير من المفكرين وأهل الرأي من أبناء مشروعنا الإسلامي العظيم، فكانوا بحق أعظم من أنجبت الأمة في تاريخها المعاصر من أهل الفكر والرأي، ذلك لأنهم انطلقوا في فكرهم ورأيهم من النقطة التي يجب أن يكون الانطلاق منها، وهي نقطة الإيمان والتسليم بوحي الله (قرآنا وسنة) كأعظم مصلحٍ وأعظم هادٍ، ثم التجوال من بعد ذلك في رحابه فكراً ورأياً، محدودين في النهاية بحدوده، غارفين من معينه الذي لا ينضب، فكان كل فكرهم ورأيهم تفسيراً لهذا الوحي واجتهاداً فيه واستنباطاً منه وإزالة لشبهه وبناءً عليه ودعوةً إليه.
وذلك على غير ما كان من حال المفكرين وأهل الرأي الآخرين الذين ذكرناهم أولاً، أولئك الذين خلطوا بين قليل من الإسلامية وكثير من العلمانية.
والفرق بين هؤلاء وأولئك يشبه إلى حد كبير الفرق الذي كان في العصور السابقة بين الفلاسفة والمتكلمين، فالفلاسفة ينظرون بعقولهم في كل قضية غير منطلقين من أي مسلّمات أو ثوابت، فلا يعتبرون بالدين والوحي في نظرهم لأي قضية من القضايا، بل ينظرون إليها نظراً عقلياً مجرداً، ويذهبون فيها إلى ما تذهب إليه عقولهم فقط.
أما علماء الكلام، فهم فلاسفة مسلمون، ينطلقون في نظرتهم لأي قضية من منطلق الوحي أولاً، ويُعملون عقولهم في فهم القضية والحكم عليها في ضوء هذا الوحي.
ولذلك خرج لنا منتج الفلاسفة منتجاً أعرجاً، يسير على قدم واحدة هي قدم العقل والنظر، فلم يستطع بعرجته أن يصل لمبتغاه، بل تاهت الخطا وضاعت الغايات والمقاصد.
أما علماء الكلام، فساروا على قدمين ثابتتين، قدم الوحي وقدم العقل، فكان سيرهم أثبت واتزانهم أكبر، فبلغوا المقاصد والغايات مهتدين بهدى الله قبل هدى العقل والمنطق.
وهكذا كان الفرق بين مفكرينا وأهل الرأي فينا من الإسلاميين ومن العلمانيين في مقابلهم، فالعلمانيون فلاسفة يكادون لا يعترفون إلا بالعقل وسيلة للفهم والحكم، والإسلاميون يعترفون بالعقل من بعد الوحي، ويعرفون للعقل حده ومنتهاه الذي لا يجب أن لا يتخطاه.
العلمانيون فلاسفة يكادون لا يعترفون إلا بالعقل وسيلة للفهم والحكم، والإسلاميون يعترفون بالعقل من بعد الوحي، ويعرفون للعقل حده ومنتهاه الذي لا يجب أن لا يتخطاه
وفي ذلك قلت شعرا:
العلم عند الله عند نبيه
والرأي يأتي بعد ذا معقولُه
من كان ذا رأيٍ ليجعلْ رأيَه
من بعد (قال اللهُ، قال رسولُه)
حول راحة البال..
أقرأ في كتابٍ هذه الأيام لأحد المفكرين وأهل الرأي الذين يطلقون العنان لعقولهم مع تضييق النظر بالوحي والنصّ إلى حد يقترب من تعطيله.
قرأت له اليوم مقالين يتحدث فيهما عن راحة البال، ويصف ما شاهده في فرنسا في رحلة ثقافية له هناك، حيث شاهد فتاة تقدم لهم الطعام والشراب في القطار، شاهدها والابتسامة لا تفارقها، وهي ابتسامة كما يقول صافية تنبئ عن راحة بال حقيقية وليست مدّعاة، وكذلك كان حال الشاب الذي يرافقه في رحلته مترجماً له، فقد كان كتلك الفتاة....ابتسامةً وهدوءاً وراحة بال.
وقد سأل الكاتب الشاب والفتاة عن حالهما، ووجد أنهما غير غنيّين، بل يعيشون بالكاد عيشاً بسيطاً.
وحاول أن يجد تفسيراً لذلك، فذهب ظنه إلى أن الحال العام في أوروبا من استقامة الحياة كلها بكل أبعادها السياسية والاقتصادية وغيرها، هو الذي يحدث حالة من راحة البال العامة لعموم الناس، والتي تكاد تتوارى بجانبها أي مشاكل شخصية فردية، وتبقى في أضيق حدودها، ليجد الفرد صاحب المشكلة الفردية مشكلته وقد ذابت أمام راحة البال العامة التي توفرها له الدولة ولغيره من الناس في طول البلاد وعرضها، فيمضي الناس جميعا لذلك آمنين مطمئنين على حاضرهم ومستقبلهم.
غير أننا ننظر إلى المسألة من زاوية يغفلها ذلك الأستاذ، فراحة البال كما نراها في هذه الحياة الدنيا قد جعل الله لها قواعد ثلاثة....
فأما القاعدة الأولى ففي قوله تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في كبد} [سورة البلد:4].
وهي آية تدل دلالة قاطعة على أن عدم راحة البال في هذه الحياة الدنيا يكاد يكون قانوناً عاماً، لا يسلم منه غني ولا فقير، ولا مواطناً في دول العالم الأول ولا في دول العالم الأخير، كلهم في كبد، والكبد يختلف من هنا لهناك، في شكله ومقداره وسطوته.
وأما القاعدة الثانية ففي قوله تعالى: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً} [سورة طه:124].
وهي آية تدل كذلك دلالة قاطعة على أن أولئك الذين يعيشون حياتهم بعيداً عن ذكر الله وهديه، هم في الحقيقة في معيشة الضنك، مهما ظهر من ظاهرهم مما يعطي دلالة كاذبة على راحة البال وطمأنينة النفس.
وأما القاعدة الثالثة ففي قوله تعالى: {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} [سورة الرعد:28].
وهي آية تدل دلالة قاطعة في ضوء الآية السابقة التي ذكرناها آنفا على أن راحة البال وطمأنينة القلوب والنفوس ليست إلا في ذكر الله.
ومن هذه القواعد الثلاث يتضح لنا أن قانون عدم راحة البال هو من قوانين الحياة الدنيا العامة، أي من نواميس الله فيها، وأن أكثر من يعيشون في الضنك والكبد هم أولئك الذين يعيشون بعيداً عن ربهم إيماناً وذكراً واستقامة على نهجه، وأن أعظم الناس طمأنينة قلب وراحة نفس هم أولئك المؤمنون الذاكرون الشاكرون.
إن أكثر من يعيشون في الضنك والكبد هم أولئك الذين يعيشون بعيداً عن ربهم إيماناً وذكراً واستقامة على نهجه، وأن أعظم الناس طمأنينة قلب وراحة نفس هم أولئك المؤمنون الذاكرون الشاكرون
لسنا ننكر أبداً صحة حديث ذلك الأستاذ حول أن أوروبا وما وصلت إليه من ازدهار وانضباط في كافة مناحي الحياة المادية، إنما تقدم بذلك أعظم الدواعي لهناءة العيش وراحة البال وطمأنينة النفس، لكننا نوقن أن كل ذلك لن يقدم للنفس راحتها ولا للقلوب طمأنينتها إلا بالإيمان بالله وذكره والاستقامة على أمره، وبالتالي فكل الذي نراه على وجوه الغربيين من ابتسامات هي في الحقيقة ابتسامات كاذبة، من ورائها قلوب مكلومة.
أما نحن في أمتنا العربية والإسلامية فقد اجتمع علينا الأمرّان، عدم الاهتداء بهدى الله، وعدم الازدهار في الحياة المادية والانضباط فيها بضوابط الرّقيّ والتحضّر.
فأصبحنا في أبأس حال وأتعب بال وأضيق نفس، خسرنا الدنيا والآخرة. وهذه هي المعادلة التي كتبها الله علينا نحن المسلمين، فلن تنصلح دنيانا إلا بما تنصلح به أخرانا، فإما أن ننالهما معاً، وإما أن نخسرهما معاً.