تظل قضية المرأة من القضايا التي تطرح على الساحة، وهي قضية حق يراد بها باطل، ودعوات مناهضة ظلم المرأة وتحريرها إنما تنطلق من مجتمعات بلغت بهم السخافة والحماقة أن يعتبروا المرأة مجرد متاع ووعاء، تفرغ بها شهواتهم ويلبى غرائزهم، ففي المجتمعات التي تفقد المرأة فيها أدنى حق لها كإنسان له من الحقوق كما عليه من الواجبات مالا ينكره عقل سوي حق لهذه المجتمعات، هذا إن لم يكن من الفروض عليها أن تنهض لاجتثاث الظلم الذي يقع على النساء، وهن الأمهات والأخوات والزوجات والبنات.
لكن أن تقتحِم ويُروج لهذه الجمعيات في مجتمعات المرأة فيها جزء أساسي في بنائها وتكوينها، بل ووصية نبيها وجزء أصيل من ميراث الرسالة المحمدية، وأن نستورد لأنفسنا ومجتمعاتنا ونضيف لمشاكلنا مشاكل غيرنا، لا لشيء، وإنما من باب تقليد الغير ومحاكاتهم، فنصبح كما الأبواق، صدى لأصوات غيرنا، إنما هذا استنزاف لأوقاتنا وطاقاتنا، وانشغال عن مشاكل خطرها أعم وأخطر.
ومع ذلك، لا ننكر أنّ ثمة ظلم يقع على المرأة في مجتمعاتنا، وهناك إهدار لحقوقها، وتجاوز في بعض أمورها، غير أن طبيعة الإشكال عندنا يختلف كلياً عن طبيعته عندهم؛ إذ عندنا القاعدة العريضة هي شرع ربنا، والذي يحرّم المساس بالمرأة وحقوقها، بل كان منذ فجر الإسلام المحرر الحقيقي لها، لا نظرياً، ومجرد رفع شعارات، بل جاءت تعاليمه عملية ترفع من شأن المرأة، بل تجعل الإحسان لها من أعظم القربات، فشرعت من الشرائع ما يصون كرامتها وإنسانيتها، وأفسحت لها المجال للمشاركة في بناء المجتمعات والرقي بها.
جاءت تعاليم الإسلام عملية ترفع من شأن المرأة، بل تجعل الإحسان لها من أعظم القربات، فشرعت من الشرائع ما يصون كرامتها وإنسانيتها، وأفسحت لها المجال للمشاركة في بناء المجتمعات والرقي بها
وتبقى الحكمة والحقيقة ضالة أي عاقل له الحق أن يبحث عنها، ويأخذها حيث وجدها، فأن توجه اتهامات للإسلام والمسلمين حول التردي بوضع المرأة، فهذه اتهامات قائمة على اتباع الهوى والعنصرية، والباحث عن الحقيقة أيّاً كان، يجب عليه أن يتجرد من هواه وأحكامه المسبقة؛ ليصل للحقيقة المجردة.
لكن بقضية المرأة تحديداً ينطبق على القوم مثل:(رمتني بدائها وانسلت)، فمشاكلهم وتدهور أوضاعهم صدّروها لنا من خلال شخصيات منزوعة الثقة بمقوماتها الحضارية والثقافية، ومرجعيتها الدينية، مهزوزة الشخصية أمام كل غربي جديد، بهرتهم القشور عن الحقيقة والمضمون، فإن كان لأولئك الذين يهاجمون تعاليمنا حول المرأة ويرمونها بالظلم والتعنت عذر لجهلهم حقيقة الأمر-وإن كان حقيقة لا عذر لهم، وقد بات العالم قرية صغيرة يستطيع الباحث أن يطلع على المصادر الأصلية لمقومات أي أمة أو أي مجتمع- فإنه لا عذر لأبناء المسلمين الذين منذ نعومة أظافرهم وهم يدينون بدين لم يسبق لأي منظمة أو جمعية ممن يطلقون على أنفسهم أنصار المرأة وحقوق المرأة أن أعطت ربع ما أعطاها الإسلام.
ولكل المدّعين نصرة المرأة، والذين يتهمون الإسلام بالإجحاف في حقها، والذين فرضوا على أنفسهم ركوب الموجات الوافدة إلينا من غير بحث وتمحيص، لا لشيء، وإنما احتفالاً وابتهاجاً لكل وافد غربي جديد، هل غاب عن ذاكرتكم أن أول من قامت على عاتقه دعوة الإسلام امرأة؟!
إنها خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، التي كانت الصدر الدافئ، والكهف الآمن الذي لاذ به محمد صلى الله عليه وسلم أول فزعه من رؤية الوحي في غار حراء، فما كان منه في خوفه وحيرته إلا أن توجه لزوجه، فما توجه لغيرها، يبثها ظنونه ومخاوفه وشكوكه، فكانت جيشه الذي يمده بكل أسباب القوة والثبات.
بل وكانت رضي الله عنها من أول المؤمنين بدعوته، لم تبخل عليه في مال ولا وقت ولا جهد، بل تحملت معه الحصار في شعب أبي طالب، وقد تقدم بها العمر، والتي عُرف عنها العيش في دعة وبحبوحة، إذ لم يسبق وأن كابدت شظف العيش.
بل ويطلق على العام الذي يفرّق الموت فيها بين الرسول الزوج وزوجه خديجة عام الحزن، فيصاب بخلة على فراقها، لحظها الصحابة عليه، "جاءت خولة بنت حكيم فقالت: يا رسول الله كأني أراك قد دخلتك خلة لفقد خديجة، قال: (أجل كانت أم العيال وربة البيت) (ابن حجر، الإصابة في تمييز الصحابة). ويظل وفيّاً لها، مكرماً لذكراها في نفسه، فلم تشغله أعباء الرسالة، ولا مهمات القائد عن الوفاء لها، وقد امتدت السنين في فراقها، فيكرم صويحباتها إكراماً واعترافاً منه صلى الله عليه وسلم لذكراها وفضلها.
وآخر حياته صلى الله عليه وسلم وهو النبي العابد المجاهد، ولحظة الوداع والفراق، لم يختر اللحاق بالرفيق الأعلى على صهوة جواده مجاهداً في ساح الوغى، ولم يكن عبثاً أن يختار الرفيق الأعلى في حجر امرأة، فلم تقبض روحه ساجداً أو قائماً، وإنما أسلم روحه لبارئها في حجر زوجه أم المؤمنين رضي الله عنها عائشة!
لم يكن عبثاً أن يختار النبي صلى الله عليه وسلم الرفيق الأعلى في حجر امرأة، فلم تقبض روحه ساجداً أو قائماً، وإنما أسلم روحه لبارئها في حجر زوجه أم المؤمنين رضي الله عنها عائشة
وكأنه بأبي وأمي عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم يزرع في عقولنا وقلوبنا بل ويسلحنا بترس يصد هجمات حاقدة على سطوع الإسلام ورحمته، وكأنه يقول لنا أنّ الرسالة التي انطلق بها صادحاً في كنف امرأة، فكانت أول المؤمنين بها، بل وأول من يراق دمه في سبيلها، إلى أن كان آخر عهده بهذه الحياة كإنسان رجل ونبي مرسل في حجر امرأة، يقضى في حجرها، ومنه يرتقي إلى الرفيق الأعلى، إنما هذا درس يصفع بحقيقته كل الوجوه التي اسودت حقداً وغيظاً، لا لشيء وإنما لعجزهم تحقيق أدنى ما حققه من المساواة والعدالة والحرية لكافة فئات المجتمع، فكان الشمس الساطعة التي تشرق على العالم في وقت كانت الظلمات تحيط بهم لفيفاً.
ولو لم يكن بسيرة المصطفى إلا هذين الموقفين لكفى المرأة فخراً وشرفاً أن تكون لأحمد تابعاً، ناهيك عن المواقف العظيمة والآيات الجليلة والأحاديث الشريفة التي ما زال المسلمون يتعبدون بها، تلاوة وعملاً واتباعاً، فأي حقوق قدمته المنظمات الحقوقية والإنسانية للمرأة، بل للإنسانية كلها؟
وهل ما تعانيه الإنسانية اليوم من فقر وجوع وتشريد ولجوء لا فرق فيه بين ذكر وأنثى، صغير أو كبير، إلا دلالة على العجز الذي بلغته هذه اللجان والحقوق؟ وأن ما يسعون له أو يدعون إليه لا يتعدى كونه مجرد شعارات مكتوبة على يافطات ليس إلا، وما ذلك إلا نتيجة اتباع الهوى، وعدم السير في منهجية العقل السليم المتحرر من قيود الجهل والظلم الذي يبحث عن الحقيقة، لا لشيء، وإنما لاتباعها والأخذ والعمل بها.
نعم، من هنا يأتي الاعتراف بكل شجاعة وصراحة، هناك ظلم تعانيه المرأة، لكنه ظلم لم يشرّعه الإسلام، ولم يقرً به، ولم يرضاه جل شأنه الذي حرّم على نفسه الظلم؛ إذ جاء في الحديث الشريف: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا) (رواه مسلم).
وأي ظلم وضيق تعانيه المرأة اليوم إنما هو مأخوذ من عادات موروثة، وتقاليد بالية، ما جعل الله لها من سلطان، ظلم نابع من انحراف السير عن منهج الله، وعدم اتباع شرعه الذي ارتضاه، ومخالفة لأوامره، واتباع نواهيه.
أي ظلم وضيق تعانيه المرأة اليوم إنما هو مأخوذ من عادات موروثة، وتقاليد بالية، ما جعل الله لها من سلطان، ظلم نابع من انحراف السير عن منهج الله، وعدم اتباع شرعه الذي ارتضاه، ومخالفة لأوامره، واتباع نواهيه
كما أن أي مطالب لحقوق المرأة وغيرها من الحقوق سيجد في الإسلام العزوة والنصير، والقاعدة العريضة التي تنطلق منها كل الحقوق، وفيه معول الهدم للأوثان، نصبناها لأنفسنا من عادات وتقاليد، وقيم اجتزأناها واستوردناها من هنا وهناك، ما أنزل لها بها من سلطان، بل إنّ أول المعادين والمناهضين لها إنما هو موروثنا الشرعي المتمثل بكلام ربنا وسنة نبينا، وما غير هذا فيؤخذ منه ويرد.