في الزمن الذي زاد فيه الغلاء في كل مكان، وكثرت متطلبات الناس وأحلامهم وطموحاتهم، صارت أمور كالصدقة أو حتى زكاة الفرض واجبًا ثقيلًا على الكثيرين، ولا نستثني هنا أصحاب الأموال، فالزكاة وأي نوع من العطاء قد يغدو ثقيلًا على هؤلاء بالذات، بينما تجد آخرين رغم قلة ما يملكون لا يترددون في العطاء، فما السر في هذا الأمر يا ترى؟
-قلة المال تحد من الأحلام:
هل ربما تكون نظرية علاقة المال بالأحلام طردية، فكلما زاد المال زادت الأحلام والاحتياجات، والعكس صحيح؟! ففي الشارع الأمريكي مثلًا، قام بعض الشباب الأمريكيين باختبار درجة العطاء في الشارع الأمريكي، وتضمن الاختبار بعض المتسولين، وكانت النتائج مثيرة للعجب، ففي حين رفض الكثير من المُوسِرين دفع دولار واحد لمساعدة حالة إنسانية، لم تبخل إحدى المتسولات بإعطاء دولار لا تملك غيره، وحين أصرّ الشاب السائل أن تحتفظ به المرأة لتشتري بها طعامًا، قالت إنها تملك الطعام لذلك اليوم، وأصرت على إعطائه الدولار!
وشاب آخر ادَّعى الجوع؛ ليختبر درجة إيثار وعطاء الناس، فبخل عليه معظم الناس، ولكن متسولًا أعطاه من الطعام الذي يملكه!
ومرة ثالثة قرّر مجموعة من الشباب إعطاء الهدايا لبعض المشردين في الشارع، فما كان منهم إلا أن قَسَّموها بينهم، وقرروا منح الزائد لبعض أصحابهم من المشردين المحتاجين!
حلَّل البعض هذا الإيثار من قبل الفقراء بأن آمالهم ليس عريضة، وأنهم متى ما حققوا الاحتياجات الأساسية، لا يجدون داعيًا للاستئثار بما تبقَّى! وهذا على عكس الأغنياء الذين يجمعون المال على أمل شراء ما يطمحون إليه من سيارات وعقارت وملابس وغيرها متى ما توفر المبلغ المطلوب، وكلما زاد مالهم زادت احتياجاتهم وطموحاتهم، وبالتالي رغبتهم في الاستئثار بمزيد من المال.
-هل المسألة مسألة معادن؟!
من جهة أخرى، فإن البعض الآخر رأى أن المسألة متعلقة بمعادن الناس بغض النظر عما يملكون، فالبعض لا يعطي وإن كان يملك جبلًا من الذهب، والبعض الآخر يعطي وإن كان لا يملك إلا قطعة نقدية واحدة، وهؤلاء الذين قال الله فيهم: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} [سورة الحشر، الآية:9].
المسألة متعلقة بمعادن الناس بغض النظر عما يملكون، فالبعض لا يعطي وإن كان يملك جبلًا من الذهب، والبعض الآخر يعطي وإن كان لا يملك إلا قطعة نقدية واحدة
تحكي المعلمة الأمريكية "ستيسي بيس" في مذكراتها أنها عملت في مدرسة للمشردين، وكانت تدرس في غرفة في الملجأ نفسه، فلم يكن هناك مبنى منفصل للمدرسة، ومع أن هؤلاء الأطفال كانوا محرومين من الكثير من الأشياء، إلا أنهم لم يترددوا في إعطاء المعلمة هدايا مما يملكونه، وتأثَّرت المعلمة بهذا التصرف، فذهبت للمدير المسؤول عن إدارة التعليم في ذاك الملجأ، وأخبرته أن هؤلاء الأطفال الذين لا يملكون شيئًا أعطوها هدايا وإن كانت بسيطة، وتساءلت عن إمكانية أن يتمكنوا هم كإداريين ومعلمين -الذين يملكون الأدوات والسلطة- من فعل شيء لهؤلاء الطلبة المعدمين!
كذلك تحكي إحدى الفتيات أنها تتصدق على امرأة فقيرة من فترة، فودّت تلك المرأة الفقيرة أن ترد للفتاة ما رأته معروفًا، فقامت بطبخ بعض الأطعمة لها!
إن تلك الأمثلة تعتبر ردًا على من يبخلون ويستأثرون بالنعم التي أنعم الله بها عليهم، ويُقصِّرون في أداء واجباتهم بحجة ضيق الحال وعدم وضوح المستقبل، وهذا إن دلّ على شيء فيدلُّ على ضعف الإيمان بالله، فهو الذي رزقنا اليوم، وقادر على أن يرزقنا غدًا، وفي كل وقت برحمة من عنده، فالله سبحانه وتعالى يقول: {وفي السماء رزقكم وما توعدون} [الذاريات، الآية:22]، فالرزق عند الله وليس في الجيوب أو البنوك!
من ناحية أخرى، فإن عدم فهم الفروض والواجبات من الزكاة وغيره، وأهميتها وأجرها والغاية منها، يجعل الكثيرين يُعرِضون عن أدائها، بل يرونها سببًا في نقص الثروة والمال، وإعطاءً لمن لم يتعب في جمعه، وذلك بدلًا من استيعاب حقيقة أن الزكاة والصدقة هي أسباب لزيادة الثروة والبركة، ومساعدة الفقراء، حتى يقل عددهم وينعدم في بلاد الإسلام .
في الإسلام يمكن للغني أن يستمر غنيًا ويزيد من ماله وثروته، طالما كان حلالًا من جهة، وعرف حق الله فيه من جهة أخرى، وذلك بإعطاء ما وجب عليه للفقير
وقد حكيتُ مرة لفتاة أجنبية غير مسلمة عن نظام الزكاة في الإسلام، فعلقتْ بأنه ربما من أفضل الأنظمة المالية المنصفة التي سمعتْ عنها في حياتها، وعقَّبتْ بأنه عادة ما تقف أنظمة الاقتصاد إلى جانب الغني أو الفقير، بينما في الإسلام يمكن للغني أن يستمر غنيًا ويزيد من ماله وثروته، طالما كان حلالًا من جهة، وعرف حق الله فيه من جهة أخرى، وذلك بإعطاء ما وجب عليه للفقير، وبهذا تتعادل كفتي الميزان وتُمحى الفروق الاجتماعية.
العطاء والإيثار من الصفات الراقية الحميدة، وهي تعكس حقيقة معدن الإنسان ومدى تعلقه بالمال والدنيا أكثر من كمية الثروة التي يملكها، فرُبَّ غني يملك قلبًا كالحجر، ورب فقير معدم يملك قلبًا من ذهب!