جلست يوماً لاستذكار ومراجعة بعض الأفكار التربوية لمرحلة الطفولة وإذ بي أتعرض لحديث للنبي صلى الله عليه وسلم وكأني أراه لأول مرة (رغم تناولي للحديث أكثر من مرة) وهو حديث (يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ) (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح).
وبالتدقيق في الحديث نلاحظ بعض الأمور والنقاط الهامة (فكرياً) لكل مربٍ:
- يا غلام.. (الغلام): هو ما بين الطفولة والبلوغ أي أن سن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنه هو ما قبل البلوغ.
- ما ورد في الحديث من كلمات كلها دالة على احترام عقلية الطفل وقدراته وطاقاته وما لديه من إمكانيات كانت سبباً بعد ذلك في نقل حديث من أهم الأحاديث (وكل كلام النبي صلى الله عليه وسلم هام) يحمل للأمة كلها الخلاص إن فطنت ذلك وعملت وفق مراده.
- ما ورد في الحديث من أفكار ونقاط ركزت الانتباه والتفكير والتناول تجاه (عقائد وأفكار– عبادات قلبية) أي أمور نحسبها ونعدها من الصعوبة بمكان على الأطفال بل على أغلب الشباب أيضاً.
ومن السابق علينا أن نعي وندرك بعض الأمور التي تساعدنا في ترتيب منظومة أفكار المربي مما تدفعه لتصحيح (التنفيذ– العمل) كمربٍ:
1. التربية عملية تشاركية :
وهذه قاعدة أصيلة مبنية على بعض الأمور الهامة ومنها:
- امتلاك الطفل (الإنسان) للوعي الذاتي الذي يجعله قادرا على تحديد قيمته وتقديره لذاته ونفسه وسط البيئة المحيطة والأقران، وهذا الوعي هو نفسه الذي يدفعه للاستقلالية الشخصية والدفع به نحو تقييم كل العلاقات الاجتماعية والتي أهمها علاقته بالمربي.
- عملية التربية تنبني على عناصر أهمها (المربي – المتربي) ومن هنا تنشأ العلاقة التشاركية بين الطرفين من أجل عملية تربوية ناجحة وفي المثال المذكور الحديث (يا غلام) كان أكبر مثال لموقف في عملية تربوية مكتملة وتشاركيه بين المربي (النبي صلى الله عليه وسلم) وبين المتربي (عبد الله بن عباس رضي الله عنه).
- العملية التربوية ليست فقط تشاركية بين المربي والمتربي ولكن جوانب تشاركها تتداخل بين المجتمع كأفراد يؤثر بعضهم ببعض ومع مؤسسات المجتمع السياسية والتربوية والتعليمية.
هذه القاعدة (التشاركية) تفرض على المربي ضرورة احترام عقلية الطفل (المتربي) وتقديرها والتعامل معها بشكل استثمار وتنمية يؤدي بها إلى النجاح المرغوب من العملية التربوية.
العملية التربوية ليست فقط تشاركية بين المربي والمتربي ولكن جوانب تشاركها تتداخل بين المجتمع كأفراد يؤثر بعضهم ببعض ومع مؤسسات المجتمع السياسية والتربوية والتعليمية
2. تغذية الإرادة لمواجهة توحش الغريزة :
تتفق نظريات علماء النفس وعلماء الاجتماع الغربيين على أن الغريزة تعد من أهم محركات السلوك الإنساني والبشري بل وساروا في طريق أن (كبت) الغريزة أمر ليس في صالح الفرد وأنه يضر بنفسية الأفراد، إلا أن الإسلام قد أرشدنا إلى قواعد وقوانين مختلفة فيما يخص السلوك البشري.
ووضع قانون مختلف ومتغاير من حيث التعامل مع توجيه السلوك الإنساني بشكل عام ومع الغريزة بوجه خاص وهو: أن الدافع للسلوك الإنساني ليس فقط الغريزة بل المبادئ والقيم والعقائد فهي محرك (دافع–مثير) للسلوك الإنساني بل وتكون في كثير من الأحيان عكس اتجاه التوحش الغريزي ومنها (مبدأ الصيام "كمبدأ معاكس لتوحش الغريزة الجوع") وقس على هذا كل المبادئ والعقائد التي يجعلها الإسلام منظومة دوافع للسلوك الإنساني.
ومقام ما ذكرناه هنا أن الإسلام يرسخ قاعدة الإرادة كركيزة كامنة داخل (المتربي) كجزء من العملية التربوية وهذا يدفعنا إلى احترام عقلية المتربي (الطفل) بما لديه من إرادة قوية دافعة للسلوك البشري ومغذية له ولاتجاهاته.
هذا الاحترام لعقلية الطفل (المتربي) من أكبر أدوات ووسائل بناء الإرادة والعزيمة لديه.
الإسلام يرسخ قاعدة الإرادة كركيزة كامنة داخل (المتربي) كجزء من العملية التربوية وهذا يدفعنا إلى احترام عقلية المتربي (الطفل) بما لديه من إرادة قوية دافعة للسلوك البشري ومغذية له ولاتجاهاته
3. الملكات العقلية – المهارات الشخصية – والقدرات الإنسانية:
إن تلك الملكات والمهارات والقدرات ليست رهينة فئة معينة أو عمر وسن محدد، بل إنها هبة الله لخلقة وعطائه لهم، فالاحترام لعقلية الطفل وقدراته هو أكبر سلاح في يد المربي من أجل اكتشاف وتنمية واستثمار تلك الأمور الهامة والنقاط الفارقة في حياة البشر، ويعد إهمال الاحترام لعقلية الطفل (المتربي) من أخطر الطرق والتي بها نَفقد ونُفقد الطفل أهم ما قد حباه الله إياه وأقل ما نتسبب فيه هو تأخير هذا النضج والاستثمار لهذه الملكات والمهارات والقدرات لديه إلى وقت متأخر متسببين بذلك في تأخر الفرد والمجتمع والأمة بأكملها.
إن حديث (يا غلام) فيه من جواهر الفكر والوعي ما لا تسعه المقالة بل وكتب وسلاسل وقد اختصرت العديد من التفاصيل وركزنا على ما فيه بما يخدم فكرتنا في احترام عقلية المتربي.. والله المستعان.