السعادة..
هل هي السر الذي يمنح الألوان للحياة الطيّبة المنشودة؟ أم أنها مجموع مركب من الأقفال المعقدة التي يصعب فتحها والوصول إليها؟ أم أن الوصول إليها هو السر الذي يجب كشفه والبحث عنه؟
في الستينيات أكدت حركة علم النفس الإنساني والوجودي بالدراسات العلمية أهمية خلق معنى في حياة الفرد، بتفعيل إمكاناته الفطرية، وفي خطوة لاحقة لاستكمال هذه الدراسات، قاد عالم النفس (مارتن سليجمان) في التسعينيات دراسة جديدة في إطار علم النفس الإيجابي، أخضع خلالها مفهوم السعادة البشرية للبحث والدراسة.
وبرغم نشر آلاف الدراسات ومئات الكتب التي تهدف لمساعدة البشر على تحقيق الرفاهية وعيش حياة طيبة بأقصى السعادة الممكنة، لا تزال التعاسة تعرف طريقها جيدًا إلى حيوات الناس، فلماذا لا يكون الناس أكثر سعادة، ولماذا ظلت الأرقام التي تحققها السعادة الذاتية عند ذات المؤشر على مدار أكثر من 40 عامًا!
وبصراحة أكثر، فكل تلك الجهود كانت تأتي بنتيجة عكسية فلا تثبت سوى عقمها وعدم قدرتها على توليد السعادة، وإنما تسهم في برمجة العقل البشري على التمرد وعدم الرضى بما لديه، وهذا تحديدًا ما يسبب التعاسة، فلا يمكن لأحد امتلاك كل شيء أو الحصول على كل شيء، والسعادة – في حقيقتها – ليست مجرد شيء واحد وهذا جزء مهم من المشكلة !
أسطورة السعادة:
عنوان كتاب فلسفي لـ (جنيفر هيشت - أستاذة الفلسفة) وفيه خلال دراستها تاريخ السعادة خلصت إلى أننا جميعاً نواجه عدة أشكال من السعادة، تتكامل أحيانًا، وتتعارض في أحيانٍ أخرى، بمعنى آخر، فإن توفر أحد أشكال السعادة لدى أحدنا بكثافة عالية، من شأنه أن يضعف قدرته على امتلاك أنواع أخرى من السعادة.
تتكامل أشكال السعادة أحيانًا وتتعارض أحيانًا، ولذلك فإن توفر أحد أشكال السعادة لدى أحدنا بكثافة، قد يضعف قدرته على امتلاك أنواع أخرى من السعادة
ولذلك يصعب بل لعله يستحيل امتلاك عدة أصناف من السعادة بنسب كبيرة في الوقت ذاته، ومن هنا فإن تحقيق السعادة يعتمد على قدرة الإنسان إدارة أشكال السعادة المختلفة في الحياة الواحدة.
إذ كلما زادت السعادة في جانب من جوانب الحياة ستقل تلقائيًا في جانب آخر !
فعلى سبيل المثال: إن إقامة حياة طيّبة مبنية على زواج جيد، وعمل ناجح، سيتطلب الكثير من الوقت والجهد لتحقيقه، لكن في المقابل سيكتشف الشخص أنه ضحى بالكثير من الرفاهية الممكنة والحرية والمتع المتاحة في سبيل الحفاظ على سعادته في الزواج والعمل.
كيف تقود حياتك بإتقان يمنحك السعادة الممكنة؟
إن البرمجة الدائمة لعقل الإنسان على أن السعادة تأتي في نمط معين من الحياة هي التعاسة بعينها ، حين نفكر في أن الماضي كان ورديا وأخذ السعادة معه لما رحل، أو أن المستقبل سيأتي حاملًا معه السعادة المشتهاة في وظيفة أو منزل أو زواج أو سفر أو دراسة أو وقوع في الحب أو إنجاب طفل... إلخ من أشكال السعادة المختلفة، سنتواجه مع الحقيقة لاحقًا أن الماضي الذي نراه وردياً يبقى تذكاراً، والمستقبل مهما كان لن يحمل السعادة الكاملة التي تخيّلنا.
لذلك وقبل أن يضيع بينهما الحاضر، فكّر في أن اليوم هو ورقتك الرابحة الوحيدة التي بإمكانك أن تملأها بالسعادة الممكنة ، فكّر في مدى سعادة الأشخاص النادر وجودهم في حيواتنا جداً، هؤلاء الذين عرفوا السعادة حقيقة حين اعترفوا في لحظة ما: "ألا يبدو الأمر عظيما الآن؟"
وقد أوجد علماء النفس المعرفي حلولاً لمعالجة النفس – بإدراك السعادة وإدارتها – تقوم على تسجيل وتذكر أحداث ممتعة من الماضي، سميت هذه الطريقة بـ (مبدأ بوليانا) إذ يكتشف الإنسان أن نظرته للماضي على أنه وردي أتت بعد أن ركز على الأشياء الممتعة واستثنى الإخفاقات والأوجاع والكراهية منه حين تذكر أحداثه، ومن هنا تتكشف للشخص العاقل طريقة صناعة حياة تغمرها السعادة تتحقق بالنظر الإيجابي للجانب الملآن بالجيد، والتعاطي الحكيم مع السيئ منها، والرضى بشأن أحداث الحياة المتعاقبة سيئها وجيدها.
السعادة تتحقق بالنظر الإيجابي للجانب الملآن بالجيد، والتعاطي الحكيم مع السيئ منها، والرضى بشأن أحداث الحياة المتعاقبة سيئها وجيدها
هل يجدر بالعاقل السوي أن ينشد السعادة الكاملة؟
حقيقة السعادة أنها زائلة ومتبدلة ومتقلّبة ومتفاوتة، وهي كالعجلة التي تسير وتفرغ باستمرار ما بداخلها، فلا تكاد تمتلئ إلا وتعود لخط البداية بعد قليل، بمعنى أنها تحتاج للتعبئة والشحن كلما نفد مخزون الشخص منها أو مطاردتها بطرق ذكية تجعل مخزونها يتجدد تلقائيًا، وهذا يتحقق في حقيقة الأمر بالرضى.
فمن وجهة النظر التطورية يتشكل الدافع لدى الإنسان للبحث عن السعادة من رفض التسليم وعدم الرضى عن الحاضر ومن حلمه بمستقبل سعيد أفضل، ويجد الاطمئنان للماضي الآمن والاستئناس بالذكريات الدافئة، يجعله بشكل ما متفائلاً أكثر، وشبه واثق من إمكانية تحقيق السعادة المستقبلية التي يحلم بها.
السعادة زائر مبهج نقدرها حين نصل إليها، إلا أن النعيم المستديم في الجنان يهوّن الفترات الغامضة بين زيارات السعادة أو تحت وطأة شقاء الدنيا
وإن كان الكاتب يرى فكرة النعيم الأبدي وجنة عدن دافعًا للاستسلام وعدم التحفز لإنجاز أي شيء، إلا أن تمنية النفس بسعادة الغد نوع من التفاؤل وإحسان الظن بالله لدينا - كمسلمين – فالسعادة زائر مبهج حسب رأي الكاتب يمكننا أن نقدرها حين نصل إليها، إلا أن طموحنا لجنة عدن والنعيم المستديم فيها يهوّن الفترات الغامضة بين الزيارات المتقطعة للسعادة أو تحت وطأة شقاء الدنيا .
إذ ستتمكن من العيش راضيًا بما تستطيع جنيه من قطاف السعادة الدنيوية في ظل قناعاتك الدينية المستلهمة من الإسلام: فالسعادة الأبدية والكاملة التي لا شقاء بعدها تأتي في الجنّة، ولولا الشقاء في الدنيا لما عرف أحد بوجود شيء اسمه السعادة!
كتب ذات صلة بالموضوع
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- مترجم بتصرف عن المقال في الرابط التالي: https://www.weforum.org/agenda/2016/08/why-you-shouldnt-always-want-to-be-happy?utm_content=buffer0d1a6&utm_medium=social&utm_source=facebook.com&utm_campaign=buffer