هناك سؤال يطرح نفسه، لماذا يهتم الجميع بالتوصل لتفاهمات وترتيبات في قطاع غزة، مع حركة ‘حماس’ تحديداً؟ الأميركيون، والإسرائيليون، ثم مصر، وطبعاً قطر وتركيا؟. ربما يكون الجواب البسيط أنّ الجميع يريد إدارة الصراع (أي منع التصعيد). ‘حماس’ تمتلك وتقوم بعمليات تصعيد، كما يمكنها منع التصعيد وفرض التهدئة، بمعنى أنّ استمرار سياسة ‘إدارة الصراع’ واحتوائه، تحتاج إرضاء أو تهدئة أو تعاون ‘حماس’. أمّا ‘الحكومة الفلسطينية’، وباقي الفصائل (باستثناء الجهاد الإسلامي)، فلا تملك الكثير لفعله في القطاع، وحتى وقف الرواتب عن موظفي السلطة الفلسطينية في القطاع، لا يخلخل سياسة الحفاظ على الأمر الواقع، أو سياسة الاحتواء، المتفق عليها الآن إقليمياً ودولياً في غزة.
في أربعينيات القرن الفائت اقترح مسؤولون في وزارة الخارجية الأميركية، سياسة ‘الاحتواء’، لمواجهة الاتحاد السوفياتي، وقامت هذه السياسة، على عدم الدخول بمواجهة شاملة أو سريعة مع السوفييت. تمت التوصية بشدة بعدم استفزاز الشيوعيين، حتى إعلاميا، والتركيز بدلا من ذلك على نجاح النموذج الرأسمالي ليقارن من يعيش تحت الحكم الشيوعي بين واقعه البائس، وواقع من يعيش في الغرب. هذا مع الضغط عسكرياً في أي مكان يحاول السوفييت التوسع فيه بقوة السلاح، لكن دون المبادرة للهجوم.
طبقت السياسة بشكل مشوه في الخمسينيات، فقد أصر من تولى هذه السياسة على الهجوم الإعلامي والتصعيد العسكري غير المبرر أحياناً. لكن بشكل عام طبقت هذه السياسة؛ وترك الشيوعيون للاستنزاف الداخلي، مع تشجيع هذا الاستنزاف بطرق مختلفة، وركز الرئيس الأميركي دونالد ريغان (1981 – 1989)، على هذه السياسة بتركيزه الإعلامي على وصف بلاده بالمدينة المتلألئة، مع السخرية المستمرة من الفشل وعدم الفعالية في الاتحاد السوفياتي، وأدخل الشيوعيين في سباق تسلح، أدى لاستنزافهم اقتصاديا، على حساب حاجات المواطنين الذاتية، وهذا أسهم في النهاية بالانهيار.
يبدو أنّ هذه السياسة مطبقة الآن إسرائيلياً وأميركيا في غزة، فالمطلوب حصار ‘حماس’ داخل القطاع، بل ومد يد المساعدة لها، ولكن بقدر محدود، لتبقى موارد الحياة موجودة، ولكن بالحد الأدنى، أو أقل قليلاً، لتبقى ‘حماس’ في مستنقع الوضع هناك، حتى لو حقق أفراد منها أو ظنوا أنهم يحققون مكاسب، وطنية، أو حركية، أو شخصية. والنتيجة بعيدة المدى المرجوة إسرائيليا- أميركيا، ليس انهيار ‘حماس’ فقط، ونموذجها، بل أيضاً أن تنحصر الحركة وهمومها وأولوياتها في القطاع وإدارة الحياة فيه على حساب نشاط الحركة في أماكن أخرى. كما يتحقق هدف آخر هو انهيار الحركة الوطنية الفلسطينية، باستمرار الانقسام.
بتصعيد مسيرات العودة، ورشقات الصواريخ المتقطعة، تهدد ‘حماس’ و’الجهاد’ بتعطيل هذه المعادلة، وتغريم الاحتلال الثمن، ولكن النتيجة هي التفاوض على ثمن التهدئة، ليس إلا، بمعنى أن الموافقة على إدخال الأموال والسولار القطريين، وربما مد مساحة صيد الأسماك المسموحة، وزيادة البضائع وفتح المعابر، هو رفع الثمن قليلاً في عملية التفاوض الجارية، بالسلاح الحي حيناً، والجارية فعلا على مائدة المفاوضات عبر وسطاء حيناً آخر.
لا يجري تقديم شيء ‘للسلطة’ في الضفة الغربية، فهي لا تفاوض لا بالسلاح ولا بالعنف المدني وإذا كانت تعلن رفض المفاوضات التقليدية الدبلوماسية أيضاً، فحتى لو ذهبت لتلك المفاوضات سراً أو علناً، فلا شيء يجبر الإسرائيليين على دفع ثمن. ومسألة القرارات الدولية، والمحلية (قرارات المجلسين الوطني والمركزي)، كلّها أشبه بأرصدة مجمدة لا يتم صرفها بشيء على الأرض (حتى الآن)، وبالتالي فلن يجري تقديم أي بضائع ما دام صاحب الأرصدة متردد في استخدامها.
مصر، معنية بالهدوء في سيناء بالدرجة الأولى، لذلك تلتقي مصلحتها مع التهدئة في غزة، لئلا ينتشر التهديد منها. قطر وتركيا حلفاء لحماس لذلك يستجيبون لمطالبها ببعض الدعم. وحتى لو لم يتم توقيع تهدئة رسمية بين الفصائل في غزة وإسرائيل، بسبب معارضة قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي، والوحيد، فهناك حلول جاهزة، من مثل الحديث عن ‘تثبيت تهدئة 2014’، التي وقعتها المنظمة أو السلطة.
ما قد يرفع الثمن الذي يحصل عليه الفلسطينيون كثيراً هو تخريب سياسة احتواء وإدارة الصراع بالقيام بتغيير الأمر الواقع، بتحقيق الوحدة أولاً، وثانيا، ربما البدء بصرف الأرصدة (القرارات الدولية والمحلية) المجمدة.
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- صحيفة الغد