يحاول الاحتلال بكل أدواته في العقد الأخير أن يحطم فكرة التضحية في قلوب الفلسطينيين من عدة زوايا وهذا ينساق ضمن الحرب النفسية المتزامنة مع العمل الميداني لتحقيق ذلك؛ فهم وعلى مدار 60 عاماً لم ينجحوا في محاولة الترويض غير المباشر وكانت السياسات العامة لهم تعمد إلى المواجهة ككل، غير أنهم في العشر سنوات الأخيرة تنقلوا بين عدة برامج للقضاء على التضحية في النفوس وجعلها قيمة نادرة وصعبة التحقق لدى الكثير من الناس.
نظر الاحتلال جيداً إلى حالة الإجماع الوطني على المقاومة والجمهور الكبير لها وحالة العيش بدور البطل كشعب فلسطيني أمام العالم والدعم المعنوي الكبير من العرب والمسلمين مع المادي والإعلامي وغيره، وبالتالي في ظل حربه على الفلسطيني المطالب بحقه وجد أنه لا يمكن أن ينفذ مخزون التضحية في ظل تلك الظروف بل وجب أن يصعد ويطور من برنامجه للقضاء على المقاومة فكان مشروع استهداف قيم التضحية في النفوس من خلال:
* ضرب العلاقات الوطنية بإنهاء حقبة الشهيد ياسر عرفات واغتياله وتنفيذ مشروع "دايتون" الأمريكي الذي تبجح عام 2008 في خطاب له في حفلة ليلية في أمريكا أنه استطاع ضمن برنامجه أن يفتح العلاقة بين الفتيات والشبان في فلسطين، وأن يكسر حاجز أن تسير عشيقة مع عشيقها في شوارع الضفة منتصف الليل، فكان نشر الفساد والقبضة الأمنية ومنع الخطباء في المساجد والوعاظ وحصار الفصائل وضربها أمنياً واختراق بعضها وحالة إغلاق أخلاقي للمجتمع بكل مكوناته.
* عزل أهالي الشهداء والأسرى بمنع الدعم عنهم والتعذيب لهم والعقوبات الجماعية وردع من يقف معهم، والتنكيل بجثامين الشهداء وأحكام السجن العالية والمعاناة كلها دون أن يكون حاضنة شعبية لهم إلا فقط في الواجب الاجتماعي "العزاء والجنازة"، وهذا كان ضمن المخطط الرامي لمنع صورة أن أهل الشهداء مكرمين حيث إن الفارق بين انتفاضة القدس والأقصى أن المنازل كانت تبنى فوراً في انتفاضة الأقصى بينما في انتفاضة القدس هناك شح مالي ومنع وخوف من الاقتراب من أهالي الشهداء وغيرها من الوسائل ومنع التصاريح للعمل أو السفر.
الفارق بين انتفاضة القدس والأقصى أن المنازل كانت تبنى فوراً في انتفاضة الأقصى، بينما في انتفاضة القدس هناك شح مالي ومنع وخوف من الاقتراب من أهالي الشهداء
* ضرب المنظومة البرلمانية والتشريع التحصيني لحق المقاومة وجعلها محل خلاف على آلياتها وسبلها وجعل الرد عليها أكبر بكثير ضمن معادلة الردع التي تستخدمها قوات الاحتلال، لكي يصبح التفكير في المقاومة وتوسيعها أمراً معقداً ويحسب له كل الزوايا وبالتالي التضحية تتراجع على وقع التخوفات.
* الحرب الاقتصادية التي جعلت الناس تعيش في أجواء مغايرة جداً عن واقعهم؛ فالمستوطن يحرق ويقتل ويصادر ونحن أشغلونا في القروض والشيكات الراجعة والعقارات والبناء وكل الكماليات والمركبات، وربطوا المواطن بالالتزام الذي يتعارض مع التضحية؛ لأنه إن فكر بالوطن سجن لأن الالتزام بالقروض والشيكات يعني التزاماً بالعمل الروتيني الشهري بعيدا عن أي مخاطر، وهذا أضعف التضحية بل ونمّى التنافس بين الناس في الحسد والتباغض والمكر وحتى الوقوع في الرشاوي والحرام لجلب المال لتسديد الالتزامات.
* الحرب على المناهج والإعلام بحيث يمنع التحريض والتذكير بالمجد التليد وتسليط الضوء على أي جريمة للاحتلال بل التركيز على التسامح مع العدو والتشدد فيما بيننا، وحجب المواقع الإعلامية المقاومة وكل الوسائل، والاعتقال للصحفيين والكتاب والخطباء والوعاظ.
* أخطر المشاريع هي سلب الثقة من النفسية الفلسطينية بمحيطه العربي والإسلامي بأن باشروا بإبراز وإعلان التطبيع مع العرب والمسلمين لتكوين حالة من الإحباط وإضعاف التضحية في إطار أن يظهروا أن كل العالم بما فيهم العربي والإسلامي الذين ساندوا القضية ها هم يضيّقون على الفلسطيني في مطاراتهم ومدنهم ويفتحون الأبواب دون رقيب وحسيب للتطبيع، وهذه محاولة لكسر شوكة العمق العربي وهذا استدعاهم أن يرعوا انقلابات دموية كبيرة في بلدان الجوار لحجب ضمير وموقف الشعوب عن المشهد، وإبقاء تلك الصورة المزيفة من التطبيع لإحباط الفلسطينيين.
أخطر المشاريع هي سلب الثقة من النفسية الفلسطينية بمحيطه العربي والإسلامي بأن باشروا بإبراز وإعلان التطبيع مع العرب والمسلمين لتكوين حالة من الإحباط وإضعاف التضحية
* العمل بمنهجية على إفساد دور السلطة الفلسطينية وجعلها تعمل على تفتيت الشارع، والتضييق من خلال القوانين غير المنبثقة عن برلمان منتخب، وتكثيف الانتهاكات بحق الحقوق والديمقراطية بالتزامن مع سيطرة الاحتلال على القدس، والقتل اليومي للفلسطينيين وتشكيل طبقات اجتماعية وتفاوت يحجب روح التضحية من نفوس الشباب.
* برامج خطيرة وكبيرة هدفها الأساسي نزع روح التضحية من النفوس وهم يطوّرن مساعيهم لذلك، فكانت انتفاضة القدس صفعة في وجه هذا التطويع وكانت غزة صمام أمان صعب أن يفكك لغزه المنبطحون، كذا القدس التي انتصرت في معركة البوابات وكذا الحال في كل محطة، فالمقاومة وإن ضعفت وضعف احتضانها عملياً بفعل تلك البرامج إلا أنهم لم يستطيعوا القضاء عليها بل تمر في مرحلة ضعف لن يضروا فيها أصحاب الحق إلا أذى.
ولكن ما المطلوب من صاحب الحق ضمن إمكانياته؟!
1- الإصرار على الثبات والصمود، وأقل المقاومة أن لا نستسلم ونحن نعرف جيداً أن حلف نتنياهو والاحتلال هو من النطيحة والمتردية وما أكل السبع من جلدتنا العرب والمسلمين، وأن الاحتلال يدرك أن هؤلاء ليس لهم وزن في قاعدة الشعوب، والإرادة الشعبية في الثورات كانت لها كلمتها ثم جاءت المؤامرة عليها، وهذا يقودنا إلى ما كان سابقاً أن الشعوب معنا والأنظمة دوماً مع أسيادها.
2- تفعيل الماكنة الإعلامية لتعزيز الحق التاريخي والتأكيد على ثبات الشعب وعروبة العرب وأصالة المسلمين، وما يحدثه مخطط الاحتلال من شرخ بيننا وبين الشعوب وجب وقفه والرد عليه بكل السبل.
3- الوحدة الوطنية على أساس المقاومة وفقط وغير ذلك عبث يهدر الوقت ويجعل مخططات الاحتلال تتوسع وتتمادى، فالذي أحدثته أوسلو من دمار لا يمكن أن يبارك من الشعب، بل الرد عليه ثبات ومقاومة بإعلام مهني قوي هادف غير تقليدي.
بإعادة الهيبة لثقافة المبدأ والمقاومة وقدواتها سيعود نفس التضحية والثبات أكثر قوة وصلابة ضمن معادلة من كانت هجرته لله ورسوله فهجرته لله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه.