لا شكّ أن العقل هو مناط التكليف، والله امتدح أصحاب العقول الذكية التي تفكر، ووصفهم بـ "أولوا الألباب"، وهو جزء غالٍ جداً في بنيان الإنسان، ومنه وإليه تأتي الإشارات لباقي الجسد، فيعمل تلقائياً في منظمومة تشغيل على مدار اللحظة.
وسبحان الخالق المبدع الذي وهبنا كل هذه النعم، وفي القلب منها نعمة العقل.
- وقديماً قال الشاعر مادحاً العقل:
وأفضل قسم الله للمرء عقله.. فليس من الخيرات شيء يقاربه
إذا أكمل الرحمن للمرء عقله .. فــقــد كــملــت أخـلاقـــه ومــآربـــــه
ولمّا كان العقل تحت القصف بهدف تضليله تارة، أو تخديره تارة أخرى، كان لابد من وسائل لبنائه، أو قُل حمايته، فتطويره هو صيانة حتى لا يقع في زلل الأفكار الشاذة، أو يفشل في أن يفرق بين الغثّ والثمين.
فكما يحتاج الجسد للبناء والغذاء، فكذلك العقل، بل له الأولوية، فهو القائد لهذا الجسد الكبير، ونحن اليوم سنستعرض بعض النصائح الهامة والوسائل المهمة في الوصول لعقل نافع يافع للمرء.
وتكمن هذه الخطوات في الآتي:
أولاً- التفكير:
إن الشخص الذي يفكر يقطع الطريق على أي زلل فكري، أو تيه عقلي يحدث له، حتى لو أصابه التيه قليلاً، فإنه عائد لا محالة مهما طالت مرحلة تيهه أو بعده.
وعليه، فإن الشخص الذي يفكر يملك مقومات من الثبات والتطور، خصوصاً لو كان صاحب رسالة، ولديه فكرة يعمل لها، وقبل كل هذا علاقته بربه قوية، وهذه نقطة غاية في الخطورة، فالأفكار كلها مبتورة وسلبية إذا أخذت منحنى بعيداً عن مراد الله ورسوله، ويقيناً، البشرية اليوم أحوج ما تكون لفئة المفكرين المبدعين أصحاب الرسالات، كالإمام محمد الغزالي، والكبار "حسن البنا" و"سيد قطب"، والكثير من دعاة الفكر الذي بنى وأسس عقول الشباب الإسلامي.
ثانياً- الخلوة بالعقل:
والمعنى واضح، وأنا أقصده، وهو أن الشخص الذي يعي في بناء عقله، عليه أن يختلي بهذا العقل؛ ليعرض عليه أحواله ومآلاته وحياته عموماً، فينشط في تحسين وضعه، أو يقرر قراراً مصيرياً، أو يحدث عصفاً ذهنياً يقيم مراحل حياته الماضية، ونظرته لمستقبله، وكثيراً ما كان ينصح أطباء العلوم النفسية بالاختلاء بالذات؛ حتى ينشط الذهن ويعاد آلية بنائه من جديد، وعليه، فإن الإنسان عموماً -بغض النظر عن الساعي لتطوير ذاته- عليه أن يتلقف أي فرصة يختلي فيها، ويرتاح فيها؛ ليفرز عقله كل جديد يقدمه، ويلفظ أي كسل وعطل يؤخره.
ثالثاً- اليوجا العقلية:
اليوجا: هي نظام رياضي مكون من سلسة أوضاع جسدية، يتم القيام بها بشكل منتظم، وهي أيضاً تمرين يغذي العقل، وتسمو بالروح، وقد يراها البعض بلا قيمة، أو شيء من الفراغ، وعلامة من علامات اللهو، لكن وأنا هنا أتحدث كمتخصص، فإن تدريب اليوجا في حد ذاته من عوامل البناء الحقيقي لكامل الجسد، وفي القلب منه العقل، وتحقيق اليوجا يأتي من خلال تدريب الجسد والعقل كجزء أصيل منه على التركيز والعصف الذهني، والسعي لتوحيد بوصلته تجاه شيء محدد، ويقيناً، يحتاج هذا التحقيق عاملاً مهماً جداً، وهو "المناخ النفسي للفرد، واختيار الوقت المناسب لذلك". وهناك العديد من الفوائد لذلك، منها:
- تعزيز القدرة على التركيز.
- تحسين الذاكرة، وتقوية القدرات العقلية بكل ما يمنع وصول أعراض الأمراض إليها.
- تقليل الرغبة العدوانية، والميل للعنف والتعصب.
- تفريغ العقل من همومه ومشاكله وإجهاده الذهني.
- التخلص من الأفكار السلبية وتوجيه بوصلة العقل لكل إيجابي.
- تقليل الانفعال، وإحداث حالة اتزان جسدي كبير.
وإذا كنا تحدثنا في البند الثاني عن الخلوة العقلية وأهميتها في تحديد المصير، والتفكير في القادم وتقييم الحاضر، فإن اليوجا العقلية هي عملية صمت وهدوء كامل للعقل، ينشط معها بعد ذلك، فهو بمثابة استجمام عقلي يزيل كل الجهد والإجهاد الذهني، وكثيراً ما يقال: إن الإجهاد الذهني للعقل قد يصيب المرء بالأرق لفترات كبيرة، ويكون الدواء هو التوجيه باليوجا، وفعلاً، هو علاج فعّال يحتاجه الإنسان؛ ليخرج من كل همومه ولو لدقائق، لكن تأثيرها الحياتي كبير.
رابعاً- القراءة أولاً:
إن القراءة هي رمانة ميزان تكوين وتأسيس أي عقل، وقديماً قالوا إن الأمة التي لا تقرأ، لا مستقبل لأبنائها، فالجمود الفكري والتحجر العقلي منبته عدم القراءة، والتبحر في السير التاريخية، والاستفادة من تجارب الآخرين بكل حيادية وإنصاف وتجدد، ورغبة في تقديم المتميز.
ولا مناص أننا نحيا أزمة حقيقية تتمثل في العزوف عن القراءة بشكل واضح ومؤثر، لكن ربما التطور التقني أصبح بديلاً رغماً عن الجميع في هذه الآونة، المهم أن لا نترك القراءة والزاد العقلي تحت أي ظرف، فنحن (أمة اقرأ).
خامساً- الدائرة الفكرية ونقاشاتها:
والمعنى أن كل تجمع أو فصيل أو أبناء توجه واحد لديهم التقاء فكري في الثوابت والأصول، ويقيناً، يدار حوارات ونقاشات تتم في المحاولات المستمرة؛ لإقامة مجتمع مسلم عبر التعارف والتآلف، وتكوين أفراد يلتقون على طاعة الله ورسوله، ويسعون لإخراج الفرد وتربية الجيل المسلم القوي الذي يسعى لأستاذية العالم.
وهذا طبعاً محضن تربوي رائع، يؤسس لعقل وقلب يقظ، وضمير حي، ويضيف للعقل كل لبنات التطور والتغير والاستنفار؛ لبذل الطاقات العقلية والقدرات والملكات في سبيل تحقيق كل الخير، وفي القلب منه الرقي بالفرد المسلم: عقلاً وفكراً وتربية.
سادساً- ابحث عن الدعم:
*والدعم هنا محوران:
-محور بحثي: وهو التبحر في علوم التكنولوجيا، والإسراع في التحصيل العقلي والفكري منها بشتى الآليات، والتعريفات البحثية للوصول لنتائج صحيحة ونافعة.
لكن المهم قبل البدء بهذه الخطوة هو تحديد المقصد والتوجه عن أي بحر تود الزاد منه، وفي أي إطار فكري أو معرفي تتمنى الحصول منه على الداتا والمعلومات. ونصيحتي أن تتوجه لكل ما يقوي عقلك على التفكير كخطوة أساسية في بنائه، وبعيداً عن أي لغط قد يجعل سعيك كله هباءً منثوراً، لذا، فالحذر من أن تسقط في براثن الإسرائيليات والإلحاد، والانبهار ببريق المادية دون شعور ودون وجود أساس عاصم ومانع، وعليه، فإن البحث الإلكتروني يجب أن يقوي العقل بالشكل الذي يطور العقل، ويزيده علم وخشية في نفس الوقت.
-المحور الثاني هو البحث الميداني: والمعنى أن يسعى الساعي في تطوير وبناء عقله عن تلك المنابر التي تحيا بيننا من مفكرين وكتّاب وأصحاب الرأي السديد، ويحضر جولاتهم وندواتهم، ويحرص على قراءة مواقفهم وكتبهم، ويقرأ في سير وتجارب نجاحاتهم وإخفاقاتهم بكل حيادية وتجرد، وعليه فإن العقل بهذه الخطوات يسير بشكل صحيح وسليم.
المهم أن لا يتكبر صاحب العقل المراد بناؤه عن النصيحة، أو يخجل من الاعتذار، فتلك الأمور هي لبنات البدء لبناء عقل وسطي صحيح، بلا إفراط أو تفريط.