إن حقائق الواقع تقول بأن الغربيين في عصرنا هم الأشد اهتماماً بالعلم، إذ ينفقون على البحث العلمي مئات المليارات من الدولارات.
ثم إن الغربيين الأكثر عملاً ودأباً والأشد سيراً في مناكب الأرض، سواء في مجال الصناعة أو التجارة أو الخدمات أو الزراعة. وليت الأمر توقّف عند هذا الحَدّ فإن قيمة الإتقان تَحكم الصنائع وتُميِّز السِّلع الغربية بالجودة العالية.
ولو قارنا بين الغربيين والمسلمين في مجال الحريات والحقوق الإنسانية والمواطنة المتساوية؛ لوجدنا أن البون شاسع بين نصيب كل طرف، حيث تتمتع الشعوب الغربية بحقوق وحريات جعلتها تعيش في رفاهية منقطعة النظير. فيما شعوبنا تتلظّى تحت أثقال الطغيان وتئن من أوجاع القهر، وتعاني من ويلات الفقر، ولا تكاد ترى طريقها من شدة ظلمات الجهالة.
إن تفوّق الغربيين لا يقتصر على ما مر، فهم يفوقون مسلمي هذا العصر في حضور الوعي الجَمعي وبروز قيمة الوحدة والائتلاف وإتقان مناهج الحوار وإحكام آداب الاختلاف، ويملكون من وسائل النظام والتنظيم وأساليب الانسجام والوئام الكثير، بما يجعلهم مجتمعات منسجمة ومتماسكة وذات أهداف وغايات واحدة، رغم ثراء الوسائل وتنوع الأساليب ورغم تعدد المشارب وتضارب الأفكار.
أما المسلمون فإنهم مضرب المثل في الاختلاف على كل شيء وفي كل وقت، حتى صارت مجتمعاتنا أشبه ببيوت العنكبوت من حيث تَسيّد قيم العشوائية والتخبّط والارتجال وبروز آفات الصراع والاحتراب والانقسام الخلَويّ الذي لا ينتهي إلا ليبدأ، حتى أن الكاتب البريطاني أنتوني ناتنج قال: (إن مصيبة العرب هي فرديتهم، فلو دخل خمسةٌ منهم غرفة لخرجوا بستة أحزاب)!!
ولا شكّ أن الغربيين يمتلكون شتى وسائل القوة المادية والمعنوية، إذا استثنينا من ذلك الجوانب الروحية، حيث يمتلكون جيوشاً قوية مبنية على أسس علمية ومنهجية بعيداً عن الدوران حول فلَك العصبيات الضيقة أو الولاءات العمياء للحكام، وبحوزتها شتى أسلحة العصر التي صنعتها أيدي خبرائها، ويَصبّون طاقة الكراهية ضد من يعتبرونهم أعداء أوطانهم وحضارتهم، هذا بجانب امتلاكها لشتى القوى الإعلامية والنفسية والمالية التي تجعل أيدي هذه الجيوش طويلة وتمتد إلى سائر البقاع، بينما جيوشنا مغلولة الأيدي ومحجوبة الرؤية ولا تدرك لها غاية سوى أنها كلاب حراسة للأنظمة الحاكمة التي تعيث في الأرض فساداً، ولا تعرف لها عدواً سوى الشعوب والمعارضات السياسية أو جيوش البلدان الشقيقة!
ومن المفارقات الغريبة في هذا الشأن أن معظم الدول الإسلامية جاءت فى قائمة أسوأ الدول من حيث معيار القيم الإسلامية، بحسب دراسة أعدها أكاديميون مختصون من خلفيات مسلمة بجامعة جورج واشنطن الأمريكية.
وتستند الدراسة التي أشرف على إعدادها البروفيسور حسين اسكاري أستاذ الاقتصاد الدولي والعلاقات الدولية بجامعة جورج واشنطن و د. شهر زاد رحمن، والمسماة (معيار الإسلامية Islamicity Index ) على استقاء المبادئ الإسلامية من القرآن والأحاديث النبوية وتطبيقها على أربعة مجالات رئيسية:
(1) إسلامية الاقتصاد: بما يشمل تساوى الفرص والمساواة الاقتصادية ومكافحة الفقر.
(2) وإسلامية الحكم والقانون : بما يشمل المساءلة والاستقرار السياسي وحكم القانون.
(3) وإسلامية الحقوق الإنسانية والسياسية: بما يشمل حقوق التعليم والصحة والحرية الدينية.
(4) وإسلامية العلاقات الدولية: وتشمل الحفاظ على البيئة واستدامة الموارد وحجم الإنفاق العسكري كنسبة من الناتج القومى الإجمالي، ومن ثم ترتيب البلدان بحسب الدرجات التى تحوزها فى (113) مبدأ إسلامي.
وبحسب إسلامية الاقتصاد تَصدّرت القائمة إيرلندا، تليها الدنمارك، لوكسمبورج، السويد، بينما احتلت ما تسمى بـ(إسرائيل) المرتبة (27)، قبل أي دولة إسلامية أخرى، ولم تدخل فى قائمة الـ(50) الأولى سوى دولتين (إسلاميتين) هما ماليزيا (33) والكويت (42).
وأما من حيث جملة معايير الإسلامية (Overall Islamicity) ، فكانت الدول العشر الأولى على التوالى: نيوزيلندا، لوكسمبرج، إيرلندا، إيسلندا، فنلندا، الدنمارك، كندا، المملكة المتحدة، أستراليا، هولندا، بينما اندرجت معظم الدول الإسلامية في مراكز مختلفة ضمن المائة الثانية!.
وتُذكّرنا هذه المُفارقات بمقولة الشيخ محمد عبده رحمة الله عليه، حينما ذهب إلى فرنسا فوجد قيم الإسلام الحضارية تتحرك في الواقع بينما يتيه المسلون بعيدا عن دينهم، حيث قال: (ذهبتُ إلى أوروبا فوجدت إسلاماً بلا مسلمين وعدت إلى الشرق فوجدتُ مسلمين ولم أجد الإسلام)!!
وهي مقولة عميقة تُبرز بُعد المسافة بين المسلمين وبين قيمهم الحضارية، حيث اختزل معظم المسلمين الإسلام في مجموعة من الشعارات التي لا ظل لها من الحقيقة وعدد من الشعائر التي لا روح فيها، حتى أصبحت شُعَب الإسلام في واد والمسلمون في واد آخر، لدرجة يمكن القول معها بأننا مسلمون بالقول لا بالفعل أو مسلمون مع وَقْف التنفيذ، مما دفع بداعية تركي للصُّراخ بمرارة بأن (الآذان شَبِعت والعيون جَوعَى)!!
ومن المؤكد أن هذه القيم هي التي تصنع قيمة أي أمة، وأن هذه المقدمات هي التي تتحكم بنتائج الوراثة، وأن مدخلات التمكين تتركّز في ما ذكرنا هنا من قيم، ومن ثمّ فإن المُخرجات والنتائج لن تتغير ما لم تتغير المُدخلات والمقدمات، مهما كان الإيمان القلبي قوياً والتوكل على الله حاضراً، ومهما كانت المساجد مليئة بالمصلين والألسن تلهج بالدعاء لاستنزال نصر الله، ذلك أن نصر الله لعباده ثمرةٌ لنصرتهم إياه، ونصره يتم من خلال التساوق مع مشيئته التي هي السُّنَن، وهي لا تحابي رُوّاد المساجد ولا تجامل حُجّاج بيت الله الحرام، ما داموا يواجهون الأعداء بدون أسلحة الأسباب التي يمتلكونها!
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- السبيل الأردنية