كان خبر وجود غرفة عمليات مشتركة لثلاثة عشر فصيلاً فلسطينياً، قامت بشكل منسق بترتيبات الدفاع عن قطاع غزة وضرب المواقع الإسرائيلية، بعد محاولة الاختراق الإسرائيلي شرق خان يونس، خبراً يبعث على الارتياح.. فمن تمكُّن المقاومة (كتائب القسام) من إحباط العملية الأمنية الإسرائيلية، وقتل ضابط إسرائيلي وجرح آخر جروحاً خطيرة.. إلى الرد المنسق في اليوم التالي بإطلاق أكثر من أربعمائة صاروخ، ثم التوقف المنسق بعد تكبيد الصهاينة خسائر كبيرة نسبياً.. إلى الأزمة السياسية الإسرائيلية التي أدت لاستقالة ليبرمان؛ وظهور المقاومة ككاسب لهذه الجولة (بالرغم من خسائرها) الناتجة عن الفرق الهائل في مستوى التسليح لدى الطرفين.
ويأتي تنسيق هذا العمل المقاوم إثر تجربة رائدة هي تجربة مسيرات العودة، وهي تجربة أثبتت نجاحها، وما زالت تتفاعل وتتطور وتؤتي ثمارها. غير أن أبرز معالمها هي حالتها الشعبية الواسعة التي توحدت لإنجازها القوى الفلسطينية؛ التي تؤمن بحق العودة وتسعى لكسر الحصار عن قطاع غزة.
وكلٌ من تجربتي العمل المقاوم المسلح من خلال غرفة العمليات المشتركة والعمل المقاوم المدني من خلال مسيرات العودة؛ يُحسبان من أبرز إنجازات شعبنا في قطاع غزة، ويُقدَّمان كدلائل واضحة على تطور الوعي الوطني، والارتقاء العملي في الشعور بالمسؤولية، والالتقاء على المشترك، وتطويره وتوسيعه.
ولئن تمكنت مسيرات العودة من إحداث شرخ في حصار غزة، واضطرار الأطراف المعنية لتخفيف الحصار، فإن غرفة العمليات المشتركة أعطت رسالة للصهاينة بالأثمان الباهظة التي سيدفعونها إن حاولوا المساس بغزة، وبأنهم لم يعودوا قادرين على فرض شروط المعادلة في الصراع مع قوى المقاومة.
الرسالة الأخرى التي حملتها هذه التطورات، هي تزايد حالة الإجماع الوطني ضدّ مسار التسوية الحالي، وضدّ خط أوسلو؛ بعد أن ثبت فشله، وبعد أن ضرب به العدو الصهيوني عرض الحائط، وبعد أن وَلَغَ في تهويد القدس وباقي الضفة الغربية، بالإضافة إلى حصار غزة. وهي رسالة يجب أن تصل إلى قيادة فتح التي هي قيادة منظمة التحرير وقيادة السلطة، بضرورة التوقف عن هذا المسار، وعمل وقفة مراجعة حقيقية، يتم فيها توحيد الموقف الفلسطيني باتجاه التمسك بالثوابت ورفض التنازلات، ودعم خط المقاومة؛ ووقف التنسيق الأمني في الضفة مع الاحتلال الإسرائيلي، والتوقف عن ملاحقة قوى المقاومة ومجاهديها.
من ناحية ثالثة، فإن المشروع الوطني الفلسطيني يعاني أزمة هائلة، سواء على مستوى القيادة، أم على مستوى المؤسسات التمثيلية، وخصوصاً منظمة التحرير الفلسطينية، لضعف أو تقادم أو اضمحلال أجهزتها ومجالسها ودوائرها، أم على مستوى الاجتماع على البرنامج الوطني والأولويات الوطنية في إدارة الصراع مع العدو الصهيوني. وهذه الأزمة ستظل قائمة ما دام هناك طرف مُهيمنٌ على هذه المؤسسات، ومُّصرٌّ على مسارات تجاوزها معظم الشعب الفلسطيني، ويرفض الدخول في شراكات حقيقية، ويحتمي بالبيئة الإقليمية أو الدولية التي تدعم بقاءه واستمراره، وتعارض عودة خط المقاومة، أو الدور الفاعل للتيار الإسلامي في القرار السياسي الفلسطيني.
لقد تزايد في هذا العام الوعي الجمعي الفلسطيني بخطورة السلوك الانفرادي لمحمود عباس وقيادة فتح، في إدارة المنظمة والسلطة الفلسطينية، وفي طريقة مواجهة التحديات، وخصوصاً ما يعرف بـ”صفقة القرن” واستتباعاتها، والسلوك الاستيطاني التهويدي العدواني الصهيوني. كما تزايدت الاعتراضات على إصرار عباس على الاستمرار بعقوباته على قطاع غزة، والتنسيق الأمني مع العدو. وقد أدى ذلك كله إلى مقاطعة أهم وأبرز شركاء فتح في منظمة التحرير لاجتماعات المجلس المركزي الفلسطيني، فقاطعته الجبهة الشعبية، ثم قاطعته الجبهة الديموقراطية، والمبادرة الوطنية… لتجد فتح نفسها شبه معزولة عن القوى الفلسطينية الفاعلة على الأرض، مع ملاحظة عدم مشاركة حماس والجهاد الإسلامي أصلاً في المجلس المركزي. ثم إن إصرار قيادة فتح على عقد المجلس الوطني في رام الله تحت الاحتلال، كان ضربة أخرى للتوافقات الفلسطينية ولمسار المصالحة الفلسطينية المفترضة.
إن الرسالة التي يجب أن تصل إلى عباس وقيادة فتح، وقد وصلت إلى هذه الدرجة من العزلة، أن الإصرار على الهيمنة وسياسة التفرد، وبما يعاكس التيار الشعبي الغالب في الساحة الفلسطينية، سيتسبب بمزيد من العزلة والخسائر لفتح، فضلاً عن استمرار معاناة المؤسسات الرسمية الفلسطينية.
وحتى نكون عمليين، وبعيداً عن النزاع على مقاعد المنظمة والسلطة، وبعيداً عن أي أُطر تمثيلية بديلة، وحتى لا تستخدم قيادة فتح فزاعة “الشرعية” (بالرغم من أنها أفرغت هذه “الشرعية” من محتواها شعبياً ومؤسسياً)، فإن على قوى المقاومة والرافضة لمسار أوسلو أن تدعم وتُطَور حالة النجاح التي حدثت في مسيرات العودة وفي غرفة العمليات المشتركة، باتجاه تفعيل الخط المقاوم، وتطوير إمكاناته وطاقاته، وتنسيق العمل بين قواه، بما يزيد تأثيره على الساحة الفلسطينية، ويوقف التدهور في مسار القضية الفلسطينية.
وما دامت قيادة فتح على غير عجلة من أمرها في إصلاح منظمة التحرير، أو في إنقاذ برنامج المصالحة، أو في إنهاء احتكارها للقرار السياسي الفلسطيني، ولا التوقف عن الابتزاز بالمال السياسي، ولا إنهاء التنسيق الأمني مع العدو، ولا حتى رفع العقوبات عن قطاع غزة، فإن على قوى المقاومة ألا تجلس في مقاعد الانتظار، وإنما عليها أن تمضي باتجاه تشكيل جبهة موحدة داعمة للمقاومة الفلسطينية. ولعلها تستفيد في ذلك من تجربتها في تحالف الفصائل العشر، وتحاول البناء على إيجابياتها وتلافي سلبياتها.
إن هناك الكثير مما يمكن عمله، دون الارتهان لحالة الشلل المؤسسي، ودون التوقف عن العمل بانتظار نزول أبو مازن عن “الشجرة”. ومن أمثلة الخطوط التي يمكن العمل عليها:
– تفعيل مسيرات العودة في القطاع، ونقل التجربة إلى نقاط احتكاك أخرى مع العدو.
– مراكمة عناصر القوة لدى العمل المقاوم في القطاع، وحينما أمكن، وتنسيق فعالياته، وتبادل الخبرة، وتطوير الأداء، واستخدام الطاقات بأفضل الطرق.
– التوافق على رفض التنسيق الأمني مع العدو، والسعي لتحقيق إجماع وطني باتجاه إيقافه.
– استمرار العمل على رفع الحصار عن قطاع غزة، ووقف العقوبات التي فرضها عباس عليها.
– الحفاظ على الثوابت الفلسطينية، ومواجهة “صفقة القرن”، وإفشال أي مشاريع تسوية تستهدف الانتقاص من حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه ومقدساته.
– تفعيل البيئة الشعبية، وتوحيد الرموز والقوى الفلسطينية باتجاه تقوية الشراكة الوطنية، وإنهاء الانقسام، وإصلاح النظام السياسي الفلسطيني، وعمل برنامج وطني يتجاوز مرحلة أوسلو، ويحدد الأولويات ويحافظ على الثوابت، ويعزز البيئة العربية الإسلامية والدولية الداعمة للقضية.
– إطلاق الحريات، واحترام حقوق الإنسان.
– تفعيل العمل الشعبي الفلسطيني، وفتح كافة الاتحادات والنقابات الفلسطينية في الداخل والخارج، لاستيعاب كافة طاقات وإمكانات الشعب الفلسطيني وكافة اتجاهاتهم، في بيئة ديمقراطية حرة، والتنافس البَنَّاء في داخلها في خدمة الشعب الفلسطيني، كلٌّ في مجال اختصاصه.
– تفعيل دور فلسطينيي الخارج، وكافة الأنشطة المتعلقة بحق العودة، والحفاظ على الهوية الوطنية الفلسطينية.
* * *
وأخيراً، فإن الفعل الإيجابي على الأرض يجب أن يستمر وأن يتسع، باتجاه إيجاد أجواء مناسبة وفعالة لإصلاح النظام السياسي الفلسطيني، وإنهاء ظاهرة الاحتكار السياسي، والتقدم في مشروع التحرير.