قالَ بعضُ الحكماء (أكبر الدواء تقدير الغذاء) وقد بيّن النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا المعنى بياناً شافياً يُغني عن كلام الأطباء فقال: (ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن لم يفعل فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه).
لكن رغم ذلك، اعتادت "أم يحيى" -وهي أم لطفلين ولدا خلال عامين متتالين فكانا أشبه بالتوأم- إجبار طفليها على تناول الطعام، سواء بحشر الملعقة في فمهم غصبًا عنهم أو مطاردتهم بالطبق في أي مكان يذهبان إليه، أو الصراخ في وجههم وإظهار غضبها تجاه عدم تناولهم للطعام، أو الضغط عليهما لإنهاء كل الطعام المتبقي، أو حتى رشوتهم بالحلوى وما يفضلون من ألعاب كي يأكلان، فكيف تؤثر طريقة تعامل "أم يحيى" مع طفليها على نظرتهم للطعام، وعلى عاداتهم الغذائية، ونمط تناولهم للطعام؟ وما هي الحلول العملية لتجنب رمي الطعام المُتبقي وراء الطفل وتقدير الكمية المناسبة له؟
مبدأ خاطئ يسبب مشاكل صحية
من جهتها، قالت الأخصائية التربوية بتول حذيفة:" إن الكثير من الأمهات يستخدمن أسلوب المسابقات مع أطفالهن لتشجيعهم على أكل كل كمية الطعام المتبقية في الطبق، أو إجبار الطفل في بعض الحالات على إنهاء الطعام المتبقي بالقول "بتشفعلك" أو "ما فيك تقوم لتخلص صحنك".
وتؤكد حذيفة بأن ذلك المبدأ -والذي تعتمد عليه الكثير من الأمهات- يُسبب مشاكل صحية في القولون أو المعدة أو غيرها سببها التخمة، موضحةً أن الطفل لديه قدرة مدهشة على تحديد لقمة فاصلة لا يستطيع أكلها أبداً ، أما التي قبلها فيكون قد أكلها مُستمتعاً ثم تأتي أمه لتغير هذه المهارة وتمحقها بالقول (ما فيك تقوم لتخلص صحنك كُلّه أو ما في لعبة).
حلول عملية
وتقترح حذيفة بعض الحلول لتجنب رمي الطعام المُتبقي وراء الطفل وتقدير الكمية المناسبة له قائلةَ: أولاً-عوّدي طفلك وتعودي معه على سكب كمية قليلة من الطعام في الصحن المخصص له -ما سآكل حقاً لا ما أشتهي- ويمكن الزيادة حال انتهائه إذا رغب في ذلك وبهذا سيبقى الصحن فارغاً وسيأكله كله دون تخمة.
ثانياً- قد تتبقى بعض اللقيمات يمكن نقلها لطبقٍ آخر صغير أنيق مع غِطاء ووضعه بمكان قريب للطفل وفي مُتناول يده بحيث يأكله متى جاع.
ثالثاً- يجب ألاّ نصنع طعاماً جديداً ما لمْ نُنه طعامنا القديم.
رابعاً- يجب ألاّ نضع للطفل الكثير من الأصناف دفعة واحدة، يمكننا تقديم كل صنف لوحده حتى ينهيه ويتذوق الآخر.
خامساً- بمجرد أن يُخبرك الطفل بأنّه شبع أو أشار إلى عدم رغبته في إكمال الوجبة ارفعي الطعام من أمامه، وهكذا سيعتاد أن يكون أكثر جدية في إنهاء طعامه.
سادساً- عندما يشارك الطفل في إعداد الطعام وعندما يجتمع مع أطفال آخرين في الوجبة سيزيد إقباله وشهيته.
سابعاً- تجنبي المسابقات "مين بخلص أكله أسرع"؛ لأن السرعة في الأكل ليست صحية ولا جيدة بل الدعوات كلها لمضغ الطعام أكثر والأكل بِرويّة ليشعر الطفل بالشبع في وقته.
ثامناً- يُمكن خياطة أغطية دائرية محاطة بالمطاط لتغليف الأكل وسهولة حفظه.
الطعام كالعقاب
ومن ناحيتها، قالت الأخصائية الاجتماعية إيمان الرنتيسي: "إن بعض الأمهات يقمن بإجبار الطفل على تناول كميات كبيرة من الطعام، أو حتى إجباره على تناول الكمية المخصصة له؛ وذلك منذ فترات الطعام الأولى، ما يرسخ في ذهن الطفل أن الطعام يمثل نوعاً من العقاب".
وتابعت "إن هذه الطريقة لا تأتي بنتيجة؛ لأن الطفل سوف يجد حلولاً كثيرة للهروب منها، مثل التظاهر بالتقيؤ؛ لأن معدته قد امتلأت أو أنه وصل لدرجة الشبع، أو سوف يتظاهر بالمرض ووجع البطن، وأن أي كمية إضافية من الطعام سوف تؤذيه".
وأكدت الرنتيسي أن المطلوب فقط هو تناول الطفل وجبته الغذائية المتنوعة والمفيدة دون أي نقص أو زيادة؛ من أجل الصحة الجيدة والعافية والحيوية وتطور النمو الذي يحتاج إليه في هذا العمر.
وحذرت الرنتيسي من مخاطر إجبار الطفل على أكل جميع ما في صحنه، "قد يكون الطفل قد شبع، وأي طعام زائد عن حاجته يسبب له مغصاً أو ألماً في المعدة أو وزناً زائداً، إضافة إلى ذلك، فأنت تعلمينه أن يأكل أكثر من حاجته، القاعدة تقول إن الطفل يأكل حتى يشبع ولا يحتاج للمزيد".
توقف عن إفقاد طفلك ذائقته السليمة
وشددت على أنّ الطفل الرافض لتناول الطعام المتبقي في طبقه لا يُعاني من مشكلة صحية يجب معالجتها، قائلةً "بل أنتِ من تعانين من قلقكِ الزائد، فلا يجب أن تصرخي أو تحاولي عقد اتفاقيات حتى تجعليه يتناول طعامه أو تجبريه على إنهاء طبقه بالكامل، فكل هذه الوسائل لا تفعل شيئًا سوى تشويه ذائقة طفلكِ السليمة بالفطرة، وبمحاولاتك تجعليه أكثر إعراضًا عن الطعام، وبالتالي سيتوقف طفلك عن سماع صوت شهيته الداخلي الذي يقول له إنه امتلأ".
واسترسلت: "كما أنّ ذلك يجعله يشعر أنه لا يملك أي سيطرة على عاداته الغذائية، ما دمتِ تطعمينه غصبًا عنه".
وأضافت أنّ إجبار الطفل على أكل الطعام الزائد عن حاجته قد يصيبه بأحد اضطرابات الأكل، مثل: أن يأكل أكثر من اللازم أو أقل، أو أن يصاب بالأنوركسيا (فقدان الشهية العصبي) أو البوليميا (الشره المرضي)، خصوصًا عندما يصل إلى سن المراهقة.
وأشارت إلى أنّ الطفل عندما تصله رسالة بأنه لا يتحكم فيما يأكل، يفقد الثقة في نفسه، ويفقد أيضًا شهيته ، مما يجعله يرفض الطعام أكثر، وبالتالي يأكل أقل.
مخاطر التسابق في إنهاء الطعام
وأشارت إلى أن تعوّد بعض الأطفال على السرعة في تناول الوجبات من أجل الفوز بالمنافسة بين أقرانهم يُعد من العادات السيئة والمضرة للجهاز الهضمي ككل، وكذلك عدم الاستفادة القصوى من هذه الوجبات، وإرهاق المعدة والأمعاء في العمل واستغراق وقت أطول من المعتاد.
وأضافت بأن "بعض الأبحاث كشفت أن مضغ الطعام ببطء وبصورة تامة يعطي فرصة للجسم في إنتاج وإفراز الهرمونات التي تساعد على عملية الهضم، كما ترسل إشارات كهربائية للدماغ ليعطي أوامره للجهاز الهضمي للاستعداد، وإفراز العصارات الهضمية اللازمة، كما تساهم هذه الطريقة الجيدة في المضغ في إحساس الشخص بالشبع عن طريق إشارات متبادلة بين الدماغ والجسم".
واسترسلت "عودي طفلك على تناول الطعام بهدوء بعيدا عن التوتر والتلفزيون وكل ما يسبب التشتت ، بحيث ينتبه إلى إشارات الدماغ في حالة الشعور بالشبع، ولا تمنحيه الطعام في غرفته أو أمام التلفزيون أو أثناء اللعب.
لا تقارنيه بأطفال آخرين
وحذرت الرنتيسي من مخاطر مقارنة الطفل بأطفال آخرين يأكلون جيدًا؛ لأن ذلك يؤدي إلى جعل الطفل يشعر بالخزي والعار من نفسه، وبالتالي يقلل من أكله ويتحول للنحافة أكثر.
وقالت:" لا تتناسين عزيزتي الأم أن الطفل بطنه في الغالب صغير، لن يحتمل إلا بعض الملاعق وكفى، وللتغلب على عقبة شعورك بأن طفلك لا يأكل جيداً، خصصي له عددًا من الوجبات، ونوعي فيها ما بين العناصر الغذائية المختلفة لتضمني أن يحصل طفلكِ على احتياجاته منها".
وأكدت على أنّ الطعام الزائد عن الحاجة نتيجته تثبيط طاقة الطفل واتساع في المعدة الأمر الذي يتطور إلى شره مرضي وسمنة مفرطة خصوصاً في مراحل نموه الأولى.
وأضافت أن على الوالدين تفهم شعور الطفل بالشبع حين يعبر عن ذلك حسب عمره، والتي تكون إما بالكلام المباشر أو بالابتعاد عن المائدة أو حين يبدأ باللعب بدلاً من تناول الوجبة.