يمكن لأي متأمل ملاحظة الفجوة الرهيبة التي يقوم عليها نمط الحياة الغالب اليوم، بين متلازمة أحلام العظمة المزدهرة في الخيال، وصحراء الأفعال الجرداء في الواقع! ومن عَجَب أن اكتساح الساحة بموجة الخطابات التحفيزية في العظمة والأثر والتفوق والشغف وتلون غالب أحلام الشباب بذلك الهيلمان، يتناسب طرديًا مع الازدياد المذهل لأعداد المرتمين على الآرائك أمام التلفاز، أو المستلقين في الأسِرّة تحت الأغطية، أو الجالسين في المحافل يهزون رؤوسهم استحسانًا للمتحدثين، عن أهمية العظمة وضرورة الطموح للعظمة ولزومية العِملاق الكامن في كل إنسان بالفطرة!
والحق أنك عندما تطالع سير "العظماء" من سلف الأمم –المؤمنة أو غير المؤمنة– تجد خصائص عامة مواكِبة لتلك العظمة:
فهم بداية لم يتخذوا العظمة بذاتها مقصدًا أو غاية يسعون إليها.
ولا شغلتهم التطلعات للنجومية الجماهيرية أو السباق المحموم لترك أثر عالمي.
ولا امتلأت سيرهم بالخطب الناريّة والمواعظ الحماسية للناس عن ضرورة التجديد الكوني والتغييرات الوجودية.
بل كانوا أشخاصًا ذوي وعي بدواخلهم ووضوح مع أنفسهم واشتغال عملي بواجباتهم.
وقام في نفس كل منهم شعور قوي بالمسؤولية الشخصية عن وجوده الفردي، بغض النظر عن عدّاد المثبطين أو المهللين حولهم، بل لم يكن هذا العداد قد اختُرِع بعد!
فمن كان منهم مؤمنًا بالله تعالى، سعى سعيه قائمًا بمسؤولية ذلك الإيمان، من باب التعبد لله وأداء أمانة التكليف حيث جعله خالقه، مبتغيًا بذلك وجه ربه ورضاه.
ومن كان كافرًا بالله تعالى، سعى سعيه مدفوعًا بوقود "داخلي"، مبعثه كذلك "إيمان" شخصي بقضية أو قضايا.
ثم لزِمو عُدَّةً من الصفات التي تَفرُق العظماء الحقيقيين عن الزائفين: الصبر، الدأب، المثابرة، الجِدّية، الانضباط الذاتي، الثبات ولو منفردًا، الرجوع بعد الحيود، النهوض بعد التعثر... إلخ.
ولم يكونوا يتشرطون ضمانات مسبقة قبل اتخاذ قرار أو إقدام على خطوة، ولا تأييدًا حافلًا لاختياراتهم الحياتية، ولا مكافأة فورية لتضحياتهم أو تخليدًا من الناس لذكراهم، بل إن كثيرًا منهم عانى من ذم الناس في حياته وربما فترة بعد مماته.
وكانوا يخوضون مخاضات الحياة بعزم، متحملين مسؤولية أنفسهم وقراراتهم، ومصرّين على الحق الذي تبيّن لهم من حيث هو حق ومن حيث هو متبيّن لهم. وموقنين بتحقق ثمرته في حينها هي، ولو لم يشهدوها في حينهم هم.
وكانت الحياة بالنسبة لهم رحلة متصلة من السهولة والوعورة والانبساط والانحدار، لا محطات متقطعة من الإنجازات المتبلبلة بين الملل السريع والحماسة المؤقتة.
باختصار، أولئك العظماء عَظُموا لأن كلامهم كان ترجمة حياة، أما عظماء اليوم فحياتهم الكلام ! وفي حين اتخذ سلف العظماء أنفاسهم وأعمارهم مطيّة لخدمة الحق الذي تبينوه وآمنوا به، سخّر عظماء اليوم الحقوق والقضايا مطايا لخدمة مصالحهم الخاصة وأطماعهم الشخصية وتطلعاتهم النفسية للاشتهار والإبهار!
في حين اتخذ سلف العظماء أنفاسهم وأعمارهم مطيّة لخدمة الحق الذي تبينوه وآمنوا به، سخّر عظماء اليوم الحقوق والقضايا مطايا لخدمة مصالحهم الخاصة وأطماعهم الشخصية وتطلعاتهم النفسية للاشتهار والإبهار
وكم ممن يشتغل بأثره على الناس، ولم يبلغ شيئًا يذكر في نفسه ولا أمام ربّه ! فرغم الكم الهادر من النصائح والمنهجيات المتوافرة في زمن الإجابات الملقاة في كل مكان، لا يكاد الغالب يصبر على مقترح أو منهجية بضعة أيام، إلا ويعود بعدها نائحًا على حالته الميؤوس منها، باكيًا من شعوره بالملل وعدم استطاعته الصبر على الحل، عُشر صبره على نكد معايشة المشكلة!
وصدق محمد السباعي حين قال: «كم من مُبْصِر طريقِ الرّشد عاجزٍ عن سُلُوكه، وكم من سريع النّظرِ إلى الحق بطيء القَدَم عنه، وكم من لَبيب مُقَصّر وعالم غير عامل»
إن إتخام النفس بأحلام العظمة لا يصنع عظيما، بل هو محض أوهام يقظة نابعة من فراغ، أما الممتلئ بمَعدِن العظمة حقا فحياته ترجمة تلقائية لذلك .