فور انتهائهما من الغداء، في إحدى المساكن الطلابية الجامعية، قال أحدهما: الحمد لله، فرد صاحبه سريعا: أخزاك الله، الحمد لرئيس الجامعة. لم يكن الثاني يقصد سوى التنكيت لكن كلامه كان لافتا، إنها طاقة التبجيل والخشوع كخصائص حصرية للإيمان بالله، كيف يمكن أن تكون مؤسسة للاستبداد والعبودية السياسية؟ نمط التسلط في عالمنا عجيب، وفيما يبدو لم يكن نتاج قوة وبأس الحكام فقط، بل هناك سر يخيل لي أنه أعمق، فالاستبداد أقرب لدين منه لفكرة مجردة.
في الشرق وبلاد أخرى كانوا يعبدون الحكام عبودية حقيقية، والآن الناس تعبد الله، ولكن هناك مفكر ألماني مثل أريك فروم يرى أن حالة التملك والهوس من قبل شعوب لأنظمة وزعامات بعينها، وما يترتب عليه من تقديس وخضوع، يجعلنا نشك في أن داخل بنية اللاشعور عند هؤلاء يكمن دين وثني كعبادة الملوك، وأنه لا يزال هذا الدين حاضرا، حتى مع اعتقاد تلك الأمم شعوريا أنهم يتعبدون عبادة عقلانية توحيدية.
ويشير إلى أن إذا أردنا أن نفهم كيف تمتلك نظما كالفاشية أو الستالينية، أو زعامات في العالم الثالث، ملايين البشر على استعداد للهتاف والتبجيل والتضحية من أجلهم، سواء أصابوا أم أخطأوا، فلا مناص أن نرى أن في عبوديتهم التوحيدية الكثير من الزيف، إن عبوديتهم الحقيقية، موصولة بالزعيم، أو لمن تقدم له شعائر الخوف والانبهار والعظمة.
لا تزال شعوبنا تتعرى وتهتف وتتظاهر من أجل بطل أو منقذ، تلقي عليه بكل رصيدها من حرية وكرامة.. حتى تصبح أمامه لا شيء، إنهم يتلاشون فيه
أريك فروم ملحد لا يحكم على الناس حكما دينيا بالإيمان والكفر، لكنه يحلل جذور الاستبداد من منظور علم النفس، ويحاول أن يشرح لماذا تسقط شعوب ما صريعة تقديس الحكام، وتمتنع أخرى. ويرى فروم أن عبادة الزعماء كنمط من الوثنية لا تزال فاعليته سارية في الأعماق دون أن ندرك، وهي تسطع عند بعض الشعوب إذا توافر المناخ والسياق الذي يفجرها، والاستبداد برأيه صورة من صور الوثنية. يعرف أريك فروم الوثنية بأنها ليست الإيمان بالآلهة المتعددة؛ ولكن عبادة ما نصنع: أشياء على الطريق كالحجارة نهبها كل أحلامنا وعواطفنا وقوانا وماهيتنا، ثم نعبدها بعد أن نكون قد أفلسنا تماما من أي معنى أو قيمة داخلية. كلما أصبح الوثن قويا أصبح المتعبد فقيرا.
لا تزال شعوبنا تتعرى وتهتف وتتظاهر من أجل بطل أو منقذ، تلقي عليه بكل رصيدها من حرية وكرامة.. حتى تصبح أمامه لا شيء، إنهم يتلاشون فيه. تحب تلك الجماهير أن ترى زعيمها عظيما، مهابا في مواكبه، في ملابسه، في الشِعر والتراتيل والألحان، فيما يخلع عليه من أوصاف العظمة، في شبحه الذي يحتجز الصور والميادين، هي متعة العبودية، ولذة الطاعة، كان هيجل يرى أن هذه النزعة التأليهية للحكام الشرقيين تجعل الإيمان بالله يفقد جدواه. وتزداد لذة الشعوب بالعبودية، كلما تمادى الحاكم في الأحدية والفردانية المطلقة، وأطاح بحكم الدستور والقانون، وانتحل من صفات الله حيث يتخلق بالقوة والجبروت والعظمة، وهذه صفات عندما تتجسد تنزع من الشعب قوى التعبد والتبتل، وتصرفها في مجاري الاستبداد.
اللافت أن رجال الدين الذين مهمتهم توجيه الإيمان إلى التوحيد، هم ذاتهم الذي يمارسون توجيهه نحو تقديس الزعماء، فعلت ذلك المسيحية عندما جعلت الأباطرة هم ظل الله، وكذلك فعل بعض الفقهاء عبر "فقه ولي الأمر"؛ حينما رفعوا عن الحكام مبدأ المساءلة والمراجعة، رغم أنه مبدأ موجود في العهد النبوي والراشدي، وحتى اللحظة لا يزال رجال الدين الإسلامي والمسيحي يستعيرون التشبيهات النبوية وإسبالها على زعماء منطقتنا، والعجب أن الإيمان بالله فرقهم، بينما الإيمان بالزعيم ووحدهم.
التوحيد ضد الاستبداد
يندهش أريك فروم من سهولة انتكاس الأديان التوحيدية الابراهيمية إلى شكل أكثر بدائية من الدين مثل عبادة الرؤساء أو الأيديولوجيات، ويتساءل أليست وظيفة التوحيد إنقاذ الناس من غربة الاستبداد، أليست عبادة الله واقية من الوقوع في أسر عبادة الزعماء أو العجل الذهبي؟ وقصة انتكاسة التوحيد إلى الوثنية السياسية مشهورة في الكتب المقدسة. ويحكي القرآن عن بني إسرائيل، الذين خرجوا مع موسى من أسر عبودية فرعون، حيث حررهم الله، ولكنهم لم يتحملوا عبء التوحيد، ولا أفكار الأحدية الغيبية التي أنقذتهم من عبادة الفرعون.
يوضح أريك فروم إن مبدأ التوحيد حرر الإنسان من أسر الرموز الصنمية أو الزعامة التي يصنعها ويهتف باسمها؛ لأن التوحيد فكرة غيبية من خارج هذا العالم
تحدث القرآن أن وثن الزعيم لم يمت في الضمير وأن الدين البدائي اختلط بدمهم، فبعد أن تجاوزوا البحر طلبوا من موسى أن يقيم لهم صنما، قال القرآن: إن شيئا ما وثني كمن في اللاشعور عند بني إسرائيل و"أشربوا في قلوبهم حب العجل". وفي التاريخ الإسلامي، وجدنا أنماطا من التأله السياسي، تخلق به بعض الخلفاء حين أوهموا الناس بأنهم حكموا بقدر الله، وأنهم خلفاء الله على الأرض. بعضهم، كأبي جعفر المنصور، قال: إنني ظل الله على الأرض، وكان شعراء المهدي الفاطمي يُخاطبونه: فاحكم فأنت الواحد القهار، وهناك من انتقد إضافة مباحث الإمام لكتب العقيدة، حيث تدرس صفات الله، بجوار صفات الحاكم.
يوضح أريك فروم إن مبدأ التوحيد حرر الإنسان من أسر الرموز الصنمية أو الزعامة التي يصنعها ويهتف باسمها؛ لأن التوحيد فكرة غيبية من خارج هذا العالم، وتطلب من الموحد أن يضع الحكام والطبيعة في إطار العبودية، وألا يضيع أي جزء من طاقة الخضوع والرهبة من أجل مخلوق، خصوصا إذا كان من صنع يديه، يجب أن ينصرف الإيمان إلى طريقه السماوي. الحقيقة أن الصوفية كتبوا غزيرا عن الشرك الخفي الذي يؤسس للتسلط والعبودية السياسية، يقول سيدي عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه "كل من اعتمدت عليه فهو إلهك، وكل من خفته ورجوته فهو إلهك، كل من رأيته في الضر والنفع ولم تر الحق عز وجل مجري ذلك على يديه فهو إله".
ديمقراطية التوحيد
التوحيد معناه الانقياد لله وحده، وتلبية تلك الشهادة أرضيا تدفعنا إلى أن نعارض ونثور ضد كل من يزعم أن له حق الانقياد أو التسليم، لأن ادعاءه سعى نحو الاعتداء على تلك الحقوق التوحيدية لله
الوثنية السياسية متصلة بمباحث التوحيد خصوصا في تجلياته السياسية السامية. فالتوحيد يعني أن الله وحده احتجز اثباتا كل معاني الوحدانية؛ وحتى نتمم تلك الحصرية، لابد أن نحرص على التنوع في كل ما عداه سبحانه. يجب أن نثور أمام أي متخلق بالوحدانية وننفي أي أحدية سياسية متسلطة، سواء كانت دولة الحزب الواحد أو زعامة الرئيس الفرد. والله وحده صاحب السلطة المطلقة، وهو الذي يحتكر الحقيقة، وكل ما دونه متعدد نسبي، يخضع للرأي والحوار والنقاش، وكلما رأينا شخصا أو حزبا أو سلطة تنفرد بالرأي أو تدعي الحقيقة المطلقة، يجب أن نعارضها بقوة لأنها لابست بعض أخلاق التأله.
والتوحيد معناه الانقياد لله وحده، وتلبية تلك الشهادة أرضيا تدفعنا إلى أن نعارض ونثور ضد كل من يزعم أن له حق الانقياد أو التسليم، لأن ادعاءه سعى نحو الاعتداء على تلك الحقوق التوحيدية لله، فمن التوحيد أن ننتهك كل من يتأله على الناس، حتى يصبح التوحيد نقيا للواحد. كذلك كل صفات الكبرياء والعظمة والأبدية، هي حصرية لله، هي صفات جلال، وجمال، والموحد الحقيقي يمنع استنزالها على الأرض في شخص مؤسسات أو شخصيات، بل يخلق النظم السياسية والدستورية الكابحة لذلك.
ومن التوحيد أن تفعل وسائل الرقابة الدستورية على الحكام، لأن الله وحده فقط هو الذي "لا يسأل عمّا يفعل"، فبالتالي يجب محاربة نزوع الحكام للنأي عن المساءلة والرقابة. خلاصة الديمقراطية، هي ضمانة جيدة لصد أي نزوع للتأله السياسي عند الأنظمة، فهي تجعل الله متوحدا في مكانه، وتجعل الحاكم إنسانا غير متدثر بأردية التأله، وتجري عليه عوامل التعرية السياسية الاقتراعية، وتنزع عنه رداء السرمدية، فالله وحده هو الباقي.
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- مدونات الجزيرة