“أَلَيْسَتْ نفْسًا؟!”… كيف أسَّست لمنهج دعوي وإنساني شامل!؟

الرئيسية » بصائر الفكر » “أَلَيْسَتْ نفْسًا؟!”… كيف أسَّست لمنهج دعوي وإنساني شامل!؟
islam

كلنا تقريبًا نعلم عن الموقف الذي ورد في صحيح البخاري عندما مرَّت بالرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" جنازةٌ، فقام لها، فقيل له: "إنها ليهوديٍّ"، فقال عليه الصلاة والسلام: (أَلَيْسَتْ نفسًا؟!).

إلا أنه ما لا يعرفه الكثيرون، أن هذه العبارة، وهذا الموقف، واللذان قد يبدوان على قدر من البساطة، على الأقل على أكبر قدر من الإيجاز الزمني، إنما قد أسَّسا لمدرسة دعوية وإنسانية مكتملة الأركان، تفتقدها الكثير من أوساط المسلمين، ولاسيما في المجال الحركي.

ولعل أول الدروس العظيمة التي يمكن الخروج بها من هذا الموقف النبوي العظيم، وهذه العبارة النبوية الوجيزة، هو أن الهدف الأساسي من نزول الإسلام -دين الله سبحانه وتعالى- إنما هو إنقاذ البشرية من أدرانها .

وسواء أكانت هذه الأدران، من لدن البشر وسلوكهم، أو في عقائدهم الفاسدة، أو غير ذلك، المهم أن هذا الموقف والحزن الذي أصاب الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" خلاله، يقول بأن الإسلام إنما نزل لإنقاذ البشر من الضلال، ومن سوء عاقبة عدم الإيمان بالله عز وجل بالصورة التي أرادها الخالق من عباده.

وهذا في شريعتنا، حيث إن أول المقاصد التي نزلت الشريعة الإسلامية لحفظها، هي حفظ النفس، وأسبق في الترتيب من حفظ الدين؛ لأنه –بالمنطق البسيط– من دون نفس حية حرَّة، لن يكون هناك دينٌ ولا إيمان، ولا أي شيء آخر.

وبالتالي، فيبرز هذا الموقف كيف أن النفس الإنسانية ثمينة، ولا يجوز إطلاقًا إلحاق الضرر بها، بالقتل، أو بغير ذلك، بغير وجه حق محدَّد بدقةٍ شديدة في شريعتنا؛ لأن كل نفسٍ إنسانية، هي مجتمع دعوة، ولو كان فردًا واحدًا .
وهذا في جوهره يساوي إسلام نفسٍ إنسانيةٍ، أي أن يتم هداية إنسانٍ إلى حقيقة التوحيد، وقيامه –بالتالي– بإفراد الله سبحانه بالعبادة، وحده لا شريك له، وإقامة عقيدة التوحيد وشريعة الإسلام في الأرض، وهذا أمر عظيم، بل هو أساس خلق الثقلَيْن والكون في الأصل، وكل ذلك بديهي، وليس بحاجة إلى إثبات.

في هذا الموقف العظيم كذلك، يبدو لنا أمرٌ على أكبر جانب من الأهمية ذاب للأسف الشديد في ظلال سوداء نتيجة الممارسات التي يقوم بها بعض الجُهَّال باسم الدين، وباسم الدعوة، وباسم الجهاد، ونتيجة لمشروع ضخم صار له مئات الأعوام، يثابر عليه خصوم الدين والأمة، من أجل تشويهه، وإخفاء الجوانب الإنسانية والحضارية فيه، هذا الأمر يتلخص في آية قرآنية، يقول فيها الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [سُورة الأنبياء- الآية107].

فهذا الموقف يظهِرُ لنا كيف كان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كان فعلاً رؤوفًا رحيمًا كما وصفه القرآن الكريم، وكيف أنه كان نبيَّ الرحمة حقيقةً لا قولاً أو ادعاءً.

فهو عليه الصلاة والسلام، بالرغم من كل ما فعله اليهود فيه، وإيذائهم له وللمسلمين، وتآمرهم مع المشركين وأعداء الدين –بالرغم من أنهم أتباع دينٍ سماوي– لم يتشمت في اليهودي؛ لأنه مات على الكُفْر، وسوف يعذَّب بذنوبه التي كان من بينها –أي هذه الذنوب– إيذاء النبي عليه الصلاة والسلام نفسه، وإنما حزن لأن عقيدة التوحيد خسرت نفسًا كان يمكن أن تقيمها، وأن نفسًا إنسانية قد أفلتت من هدي الإسلام، وسوف تعذَّب بكفرها وذنوبها.

فهو هنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قد أعلى من اعتبارات الدعوة والمصلحة العامة، وأعلى من اعتبارات الإنسانية، على حساب كل الصغائر والذاتيات الضيقة.

وفي محصِّلة ذلك كله، سوف نجد أنفسنا أمام منهج دعوي غائب بحق عن غالبية الجماعات الإسلامية، أو التي تزعم أنها إسلامية، وتقول بأنها تتبنى الجهاد المسلح كوسيلة لنشر الدعوة.

ففي خلال تحركات هؤلاء هنا وهناك، سوف نقف أمام منظومة من الممارسات التي ترقى إلى مستوى الجريمة في حق الدين، وفي حق الدعوة، ونتائجها واضحة سواء في الصورة الذهنية المشوهة التي يتم تناقلها عن الدين الحنيف، أو في الموقف من المسلمين في بلدان المهاجر، أو في تنامي التيارات العلمانية والإلحادية بسبب تحويل هؤلاء الدين إلى أداة مقتلة عظيمة.
ولكن لعل أخطر نتيجة في ذلك كله، هو تعطيل جهود عقود طويلة قامت خلالها الصحوة الإسلامية بالكثير في مجال الدعوة الإسلامية في الغرب والأماكن التي لم تكن تسمع أصلاً عن الإسلام ونبيه "صلَّى اللهً عليه وسلَّم"، أو كتابه، القرآن العظيم.

وأبسط منطق يرد على هؤلاء وممارساتهم، أن نقارن بين موقف الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" من نفسٍ أفلتت من دعوته إلى دين الله، ومن قيام هؤلاء بقتل غير المسلمين بحجة تحقيق "النقاء الديني" في المناطق التي سيطروا عليها، أو "تخويف أعداء الله تعالى"، أو "معاقبة هؤلاء على كفرهم"، وكل ذلك أبطل الرسول "عليه الصلاة والسلام" أية مزاعم عن أنه من الإسلام، بموقف بسيط وجملة وجيزة!

أبسط منطق يرد على هؤلاء وممارساتهم، أن نقارن بين موقف الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" من نفسٍ أفلتت من دعوته إلى دين الله، ومن قيام هؤلاء بقتل غير المسلمين بحجة تحقيق "النقاء الديني" في المناطق التي سيطروا عليها، أو "تخويف أعداء الله تعالى"

كما أن القرآن الكريم فيه من الآيات الكثير التي تقول بأن حساب: الظالمين/ الكافرين/ الفاسقين، وغير ذلك من الفئات، إنما هو على الله تعالى، لا على الإنسان، مهما كان، ومن ذلك قوله تعالى: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} [سُورة الشعراء- الآية113]، ويقول عز وجل أيضًا: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} [سُورة الغاشية].

نحو إعادة النظر في كيفية تناول السيرة النبوية:

في حقيقة الأمر، فإن واجب الوقت في هذه المرحلة، هو إبراز الجانب الإنساني العظيم في الإسلام، وكيف أن هدف نزول الرسالة الخاتمة، إنما هو إنقاذ أرواح الناس، كل الناس، من العقاب الدنيوي والأخروي ، وليس تسريع إرسالهم إلى خالقهم من قبل أن يبلو أخبارهم، وأخبار عقيدتهم، إذا ما علموا من الكتاب شيئًا، أو وصلهم عن الإسلام أية كلمة أو عبارة.
الأمر الآخر، هو ضرورة العمل على إعادة تأهيل المناهج التربوية بالمزيد من التوسُّع في دراسة السيرة النبوية في غير أمور الغزوات والجهاد التي تركز عليها الكتابات التربوية والفكرية التي تتناول السيرة النبوية.

فحياة الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، بلغت ثلاثة وستين عامًا أو نحو ذلك، كلها، وليس السنوات الثلاث والعشرين التي هي سنون البعثة فحسب، كلها دروس مستفادة، حتى ما كان منها قبل البعثة، من دراسة السلوك القويم، وكيفية التعامل مع ضربات الدنيا المتمثلة في اليتم والعمل صغيرًا، وحتى كيفية الوصول إلى الله عز وجل بواسطة العقل والتأمُّل في خلقه سبحانه، وهو ما جاء القرآن الكريم بعد ذلك مصدِّقا عليه.

فلا يمكن اختزال السيرة النبوية فيما مجموعه عامٌ ونصف العام، هي إجمالي فترات الغزوات والسرايا والجهاد بالسلاح.

فحياته "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" هي واحدة من مصدرَيْ التشريع الأساسيَّيْن في ديننا؛ حيث حياته هي جزء من سُنَّته "عليه الصلاة والسلام"، وبالتالي، فإن الاجتزاء فيها خطأ مثلما هو خطأ في النَّصِّ القرآني أو النَّصِّ النبوي، حيث إن الاجتزاء يقود إلى أحكامٍ شرعية خاطئة وفقهٍ باطل.

إننا بحاجة إلى أن نعرِّف المسلمين وغير المسلمين، أن محمَّدًا "عليه الصلاة والسلام" لم يحارب اليهود -مثلاً- إلا لما خانوا العهد وتآمروا عليه وعلى دولة الإسلام الوليدة في المدينة المنورة، ولكنه في الأصل بُعِثَ بالحق لهداية هؤلاء وإنقاذهم. هذا قائم ومطلوب وهذا قائم ومطلوب، وليس جانبًا منه فحسب، وإلا كُنَّا مثل أهل الكتاب، نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض، حيث الكفر لا يعني الجحود فحسب، وإنما الانصراف والنكران كذلك!

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
"باحث مصري في شئون التنمية السياسية والاجتماعية، حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية والإدارة العامة من جامعة القاهرة عام 1997م، كاتب في موقع "بصائر"، عمل سكرتيرًا لتحرير مجلة "القدس" الشهرية، التي كانت تصدر عن "مركز الإعلام العربي" بالقاهرة، وعضو هيئة تحرير دورية "حصاد الفكر" المُحَكَّمة، له العديد من الإصدارات، من بينها كتب: "أمتنا بين مرحلتين"، و"دولة على المنحدر"، و"الدولة في العمران في الإسلام"، وإيران وصراع الأصوليات في الشرق الأوسط"، وأخيرًا صدر له كتاب "أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم"، وله تحت الطبع كتاب بعنوان "الدولة في العالم العربي.. أزمات الداخل وعواصف الخارج".

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …