الحق والباطل في نتاج الثقافة الأجنبية

الرئيسية » خواطر تربوية » الحق والباطل في نتاج الثقافة الأجنبية
Three-Ways

تستهويني من الأفلام والروايات خاصة تلك المستلهمة من قصة واقعية والمبنية على أحداث حقيقية (biopic)، بحيث مهما استغرقتني جماليات الإخراج الفني والمؤثرات التصويرية وعمق الحبكة وجودة السيناريو... لا يفوتني أن تلك الدراما الخيالية على الشاشة تظل تأريخًا لواقع بشر مثلي، شاركني أو يشاركني ذات الوجود في زمان ومكان ما، بنفس الطاقات الأساسية التي تجعل الإنسان إنسانًا بغض النظر عن ظروفه الشخصية أو البيئية.

هذا المدخل النفسي والفكري يجعل لأثر المشاهدة بعدًا ثقافيًا عميقًا يتجاوز متعة اللحظة وهزّ الرؤوس ومسح الدموع، ويتعارض مع كثير من التعقيبات السمجة التي يتداولها عادة أنماط من المشاهدِين:

- يا فرحتي! ها قد حقق حلمه وصار مشهورًا، فماذا بعد؟
- ما معنى أن يفني المرء عمره ليفعل كذا أو كذا؟
- أهذا غاية طموحه حقًا؟! أولئك قوم متكالبون على الدنيا!
- لن ينفعها ما حققته على أي حال في الآخرة!
- ها قد طال عمره رغم مرضه المميت، لكنه مع ذلك الإعجاز ظل ملحدًا!
- يا لها من مثابرة لو كانت في الله!

على الرغم من الحقيقة المطويّة في تلك العبارات إلا أنها لا تخلو من تجاعيد تشوّهها، وتجعلني أختلف معها من حيث اختزالها للحقيقة وسطحية إسقاطاتها وسوء مقارنتها.

فما أبرعنا في الحق عندما يكون المطلوب أن ننعي على الكافرين كفرهم ونشيد بإيماننا كلامًا. وما أسرعنا لهدّ أي قيمة عملية أو علمية هي حق في ذاتها طالما نبتت في باطل أو تلوثّت به، دون النظر لحقيقة أن الحق قد يعتريه سوء تعبير أو تنزيل لا يهضم من جوهره شيئًا. ولا يقدر على هذا التمييز إلا من فهم الحق أولًا فعرف أهله أو أهل بعضه.

ما أبرعنا في الحق عندما يكون المطلوب أن ننعي على الكافرين كفرهم ونشيد بإيماننا كلامًا

وعلى النقيض الآخر، تجد براعة المنافحة عن الكفار بكل ما هم عليه دون أدنى اعتبار لحرمة جحود الله والغَيْرة على جنابه تعالى من المتطاولين عليه؛ وتعظيم ما عندهم جملة بلا تفصيل، دون النظر لحقيقة أن بعض الحق في الباطل لا يجعل الباطل كله حقاً ، وأنه ليست كل محاربة للباطل هي حق أو على حق، فقد يحارَب الباطل بباطل مثله، أو بباطل أقـوى منه في البُطلان!

وصدق المنفلوطي في نظراته إذ يقول: "بين الإغراق في الذم والإغراق في المدح تموت الحقيقة موتا لا حياة من بعده".

ليست كل محاربة للباطل هي حق أو على حق، فقد يحارَب الباطل بباطل مثله، أو بباطل أقـوى منه في البُطلان

وإذا كان لا خلاف عندنا على أن ما بين أيدينا هو الحق، يظل محل الإشكال ومكمن المقارنة بيننا وبينهم في حقيقة الإيمان ومدى صدقه. يمكن أن نجد ألف ثغرة لهَدِّ ما عندهم من باطل، لكنك لا تكاد تقف على ثغرة تهد ما يثبتونه باستمرار من قوة إيمانهم بما عندهم.

وتلك الأدبيات والدراميات لا تصور الحق والباطل – وليسوا أهل اشتغال بتلك التفرقة عامة مثلنا– بقدر ما تصوّر مدى ما يمكن أن تصنعه طاقات العقل والإيمان المغروسة في هذا الكائن قصدًا، ليفعل كل بها ما شاء استثمارًا أو إهدارًا.

فأي شخص أنجز في هذه الحياة أمرًا كان مدفوعًا بـ "إيمان" داخلي بذلك الأمر، أو بطاقات نفسه، أو بدوافع إقدامه عليه، أو بجهة يبتغي رضاها... إلخ، في النهاية طاقة الإيمان وحدها هي وقود الحركة والمثابرة والإصرار، خاصة بعدما ينفض المهللون والمثبطون على السواء ويخلو المرء لنفسه، مسؤولًا بنفسه أمام نفسه عما آمن أو يؤمن به.. أو كما زعَم!

ويتوازى مع ذلك الإيمان لا ريب عقل يعقِل ما يُقدِم عليه: فهم صحيح، وعلم راسخ وإلمام جادّ؛ أو سعي في الوصول لذلك.
وكلاهما نفتقر إليه أشد افتقار مع كوننا حَمَلة الحق!

إننا لا نؤمن بما معنا من حقٍ صادقَ الإيمان، ولا نكاد نعقله أدنى عقل مطلوب لصحة الإيمان بداية .

ترى، متى نتوقف عن الاشتغال بالنعي على أهل الباطل تداولهم للباطل بأشد الحق، ونلتفت لمعايبة أنفسنا على أخذنا للحق بمنتهى الباطل؟

وقد عجِبَ لذلك من قبل سيدنا عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه إذ قال: "عجبا من جِدّ هؤلاء في باطلهم، وفشلكم في حقكم".
عجبًا.. أي عجب!

معلومات الموضوع

الوسوم

  • الباطل
  • الحق
  • اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
    كاتبة ومحاضِرة في الأدب والفكر وعُمران الذات. محرّرة لغوية ومترجِمة. مصممة مناهج تعليمية، ومقدّمة دورات تربوية، وورش تدريب للمهارات اللغوية. حاصلة على ليسانس ألسن بامتياز، قسم اللغة الإنجليزية وآدابها.

    شاهد أيضاً

    مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

    ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …