حينما ننظر إلى أنفسنا بفخر، ونتعالى على الآخرين، ونستشعر أننا امتلكنا أدوات التدين والقرب من الله تعالى، في الوقت التي افتقدها أولئك "المحرومون"؛ فإننا بحاجة حينئذ أن نستحضر على الدوام؛ دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "يا مقلب القلوب! ثبِّت قلبي على دينك".
ليس غريباً أن يُكثر النبي عليه الصلاة والسلام من ترديد هذا الدعاء، ليعلّم المؤمنين أن لا يغتروا بإيمانهم، وليبقي حبل الصلة بينهم وبين الله سبحانه متيناً بالتضرع والدعاء والرجاء والتسليم ، فقلوب العباد كلها بيده.. وقد سأله أنس بن مالك رضي الله عنه حينما سمعه - صلى الله عليه وسلم - يكرر هذا الدعاء: يا رسول الله! آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ فقال: "نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله؛ يقلّبها كيف يشاء".فنبيّ الله يخشى على أصحابه الذين أنعم الله تعالى عليهم برؤيته، والجلوس إليه، والاستماع إلى إرشاداته وتوجيهاته، والنهل من أدبه وسمته، ومشاركته في دعوته وجهاده.. يخشى عليهم من الزيغ والانقلاب عن الإيمان؛ فماذا نقول نحن؟!
إن هذا الدعاء درسٌ لكل الشامتين بمن لم يُنِرِ الله تعالى قلبه بأنوار الهداية والتوفيق، يؤنبهم ويحضهم على حب الخير لهم، وإحسان الظن بهم، فقد يكون فيهم من تخطفته الشبهات والشهوات فترة من الزمن، ثم هو لا يلبث أن يعود إلى ربه تائباً مستغفراً، ليصبح حاله أفضل من أحوالكم.. وقد يكون منهم من يكتم إيمانه لظرف قاهر لا تعلمونه.. وقد يكون من قُدِّر عليه أن ينشأ في بيئة منحرفة، رسخت في نفسه سلوكات شريرة، فهو أحوج ما يكون إلى من يأخذ بيده -بعطف ولطف- إلى بيئات الخير والهداية والرشاد، لا إلى من يشتمه ويحقره ويشمت به.
وأولى الناس بالتأنيب؛ أولئك الذين عاشوا ردحاً من الزمن يتقلبون في ظلمات الغي والحرمان، وتهوي بهم أهواؤهم إلى وديان الغفلة والزندقة، فإذا ما منّ الله عليهم بالهداية؛ قارنوا بين ما كانوا عليه من قبل، وبين حالهم بعد الهداية؛ فظنوا أنهم من أهل الجنة لا محالة، وتملكتهم مشاعر الزهو والبهو والعجب والغرور، وهاموا في بحور الكبر والتعالي على عباد الله، ونسوا أن الذي منّ عليهم بالهداية؛ قادرٌ على سلبها منهم حين لا يستحقونها، وهو - سبحانه - يذكّرهم بحالهم لعلّهم يرعوون.. "كذلك كنتم من قبل، فمنّ الله عليكم".
ويدل هذا الدعاء النبوي "يا مقلب القلوب..." على عِظم نعمة الالتزام بالدين، والثبات عليه، فالدين نعمة تستحق الدعاء بالثبات عليها ، وللثبات مكانة تستوجب الإكثار من الدعاء به، وكلاهما - الدين والثبات عليه - غاية ما يسعى المؤمن إلى تحقيقه في هذه الدنيا، فإذا ضعف الثبات، كان ذلك مظنة لضياع الدين، وإذا ضاع دين المرء؛ ضاعت معه السعادة والحياة الهانئة.
الدين والثبات عليه غاية ما يسعى المؤمن إلى تحقيقه في هذه الدنيا، فإذا ضعف الثبات، كان ذلك مظنة لضياع الدين، وإذا ضاع دين المرء؛ ضاعت معه السعادة والحياة الهانئة
ويؤصّل هذا الدعاء منهجية مهمة في مسألة الإفراط بمحبة الأشخاص ونسبة الطهورية لهم، فهم وإنْ كانوا ثابتين على دينهم بحق، إلا إنهم غير معصومين من الوقوع في حبائل الأهواء والفتن، فلمَ الغلو في محبتهم وتعظيمهم والتعلق بهم؟!
ولقد رأينا في عالم التدين مريدين يسيرون وراء أشياخهم بلا وعي، حالهم كحال ذاك التلميذ "النجيب" الذي قيل له: "إذا رأيت شيخك يزني؛ فلا تقل زنى، وإنما قل عيني هي الزانية".. فسلّمَ تسليما.
على هؤلاء أن يعلموا أنه ليس كل ما يفعله المشايخ أو العلماء يكون نابعاً عن قناعة علمية شرعية، فهناك عوامل نفسية وشخصية ومادية تقف وراء بعض أفعالهم .. فمن الخطأ أن ينبري المريدون إلى تسويغ هذه الأفعال على بشاعتها، والاستشهاد عليها بالأدلة الشرعية التي لم تكن تخطر لمشايخهم ببال، إذ كان دافعهم إليها هوى أو مالاً أو انفعالات نفسية غير منضبطة.
وكم من عالم أو شيخ؛ استماله السلطان، فمال إليه بدافع المصلحة الشرعية، لتتحول "الشرعية" إلى شرٍّ وعيٍّ ولعب في أحكام الدين، ويصبح هذا العالم خاتما في أصبع ولي الأمر، يسوّغ بفتاويه الطغيان والاستبداد والفساد، ويشرعن بـ"مواعظه" قمع المطالبين بالإصلاح، ويغدو علماً على التزلف والتذلل والنفاق؛ يُضرب بنفاقه المثل، وتُحاك حوله الطرائف، ويغدو "مسخرة" تلوكها الألسنة.. فيا مقلب القلوب!