السنة النبوية الشطر الثاني من الرّئة التي تتنفس منها البشرية عبق الوحي، وتستنير بها جنباً على جنب مع القرآن الكريم، وإنّ أمة لهي خير الأمم بهذا الدين الذي دانت به، فشاء لها الله أن تكون نبراس الهداية والنور الذي يخرج العباد من الضلال إلى النور، فلا عجب إذ تشتعل صدور أقوام حقداً وغيظاً، فتتجه أنامل الكراهية لتنال من مصدر عزها وخيريتها وأفضليتها، فإن عجزوا عن التحريف والتبديل كما نجحت يد الكيد في سابق الكتب السماوية، فليس أقل من إحداث فجوة بل هوّة سحيقة بين الأمة ودستورها، أو ليّ أعناق النصوص وتفريغها من معانيها، وإسباغ معانٍ تناسب مقاس الحقد الذي ينفث في صدورهم.
فإن كان ثمة ما يبرر لوجود الجاهلية الأولى من تحريف الكتب السماوية السابقة، وانقطاعهم أمداً طويلاً عن بعثة الرسل، فأي عذر نبرّر به جاهليتنا اليوم، وكتاب ربنا وسنة نبينا بين أظهرنا، فنحن في نعمة لا نستطيع أن نحصيها؛ إذ أمامنا معالم الطريق واضحة جلية، لا ينقصنا إلا صدق العزم في الاتباع ، وقد صدق صلى الله عليه وسلم إذ قال: (قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضّوا عليها بالنواجذ...) (ابن ماجه).
ومن خيوط المؤامرة التي تحاك لهذه الأمة -أفراداً وجماعات، شيباً وشباباً، رجالاً ونساء، بعد أن عجزت عن تحريف النصوص- هو تعمدهم لبذر بذور الشكّ، وتضليل الأفهام، والجنوح بالعقل عن جادة الفهم الصحيح، فلا يعقل إلا ما أرادوا، ولا يفكر خارج النص الذي وضعوه، وأرادوا أن يستبقوا الزمن ويحققوا أعظم الأهداف، ولكن بضربة واحدة، فلم يجدوا إلا المرأة لتحقق لهم غاياتهم وأهدافهم؛ لأنهم يدركون ما لها من أهمية، فالمرأة وإن كانت نصف المجتمع، وشقيقة الرجل، فهي القائمة على تربية النصف الآخر .
ومن خططهم المدروسة لتدمير المرأة التي هي نواة المجتمع وحصنه المنيع أن زجّوا بها في صراعات اختلقوها افتراءً وبهتاناً، وصوّروا لها بأنّ بيتها مقبرة لها ولمواهبها، فهي فيه لا تعدو أكثر من خادمة ممتهنة الكرامة، وقامت مؤسسات وجمعيات تطلق على نفسها "تحرير المرأة" و"أنصار المرأة" تطالب بحرية المرأة، كلمة حق أريد بها باطل فهي تحوم حول تعطيل وظيفتها الأسرية، بحجة أنها تهدم من كيان المرأة وذاتها، وتمس من كرامتها، والغريب أنّ هذه الجمعيات لا يكاد يُسمع لها أدنى همس عندما تمس حرية المرأة وكرامتها، وعرضها على مرأى من رعاة هذه المؤسسات المزعومة، ومسمع أدعياء التحرر والتقدم.
ثم أخذوا يزينون دروب الخروج عن الفطرة التي فطرنا الله عليها؛ ليزرعوا في عقول كثير منّا بأن وظيفة المرأة في بيتها دور ثانوي لا سطوع فيه، ولا ظهور، وأنّ فرصة إثبات ذاتها ووضع بصمتها على صفحة الوجود إنما يكمن في خروجها من البيت؛ إذ إن وظيفتها في البيت تقليل من شأنها، وحرمان للمجتمع من مواهبها، وتعطيل لقدراتها، بل وظيفتها في البيت ليست أكثر من وعاء تفريغ لشهوات الرجل، وإنجاب للأولاد، وحاشا لله القائل جل شأنه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:آية70] أن يختزل دور المرأة في (التفريغ والتفريخ) كما يحلو للبعض أن يصف النساء بها، وفق تصورهم المستورد وتحريفهم المقصود.
إنّ شرعاً كان من أول هديه ووحيه تحريم الوأد، إنما كان بذلك يعيد للمجتمع روحه، فهذه الروح هي المحضن الأول للمجتمع، وبوظيفتها التي عهدت إليها تُبنى المجتمعات وترتقي الأمم
إنّ شرعاً كان من أول هديه ووحيه تحريم الوأد، إنما كان بذلك يعيد للمجتمع روحه، فهذه الروح هي المحضن الأول للمجتمع، وبوظيفتها التي عهدت إليها تُبنى المجتمعات وترتقي الأمم، والله أجل وأعز من أن يعيد الحياة لهذه الروح لأجل إمتاع الشهوات، فالله تعالى أوكل للإنسان -رجلاً كان أو امرأة- بأمانة عجزت الجبال عن حملها، فأي أمانة كانت ستحملها المرأة لو كان دورها كما يزعمون، أوليس كل الإناث المخلوقات يتشاركن بهذا القدر من الإنجاب؟!
إن المقصود أجلّ مما يروّج له مدّعي أنصار المرأة، ويأتي قول الصادق الأمين ليبين بعض المهام والوظائف التي كُلّفنا بها، فيردّ بذلك على المتشدقين بدعواتهم، بل ويُسِفُّهم الملّ: (أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْؤولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) (متفق عليه)، وفي رواية للحديث عن أنس أن ابن عمر قال في آخر الحديث: "فأعدوا للمسألة جواباً، قالوا: وما جوابها؟ قال: أعمال البر" (فتح الباري)، فجاء هذا الحديث ليوضح لنا عدة أمور:
1.كل فرد له قدر من المسؤولية، وتعريفه بوظيفته في هذه الحياة.
2.أنه سيسأل عما كلّف به من وظيفة ومسؤولية.
3.يترتب على إدراكه لمسؤوليته أن يؤدّي ما عليه من حقوق وواجبات بإحسان وإخلاص.
وذكر ابن حجر حديثاً عن أنس: "إنّ الله سائل كل راعٍ عما استرعاه، حفظ ذلك أو ضيعه" (فتح الباري).
فهل وقفت المرأة بأي صفة كانت -أماً أم أختاً أم زوجة أم ابنة- وتدبّرت هذا الحديث، ناهيك عن باقي النصوص الشرعية، لعلّها تدرك عِظم الأمانة التي تحمل، وأن مسؤوليتها تفوق الأحمال الجسام، بل الجبال الراسيات؟
ويعلّق ابن حجر على الحديث: "أنّ كل فرد يدخل تحت معنى هذا الحديث، فهو لو لم يكن له من يرعاه فإنّ حواسه وجوارحه وقواه مناطُ رعيته ومسؤوليته" (بتصرف: فتح الباري)، فهل ثمة مجال أو حتى متسع للوقت لأن نهدر قوانا فيما لم نكلف به أساساً، وما قيمة ذاتك أيها العبد المسكين ويا أيتها المرأة التي غرروا بها، ما قيمة ذات المرأة إن خرجت عن منظومة العبودية لله، التي ينسجم الكون كل الكون فيها بتناغم وتناسق، وليعلم كل منا ذكوراً وإناثاً أننا إن أبينا العبودية لله كنا عبيداً لآلهة شتى وطواغيت متعددة، وتأمل العزة في عبوديتك لله، والذل والتشرذم الذي تعانيه البشرية اليوم، نتيجة لتعدد الآلهة التي يتوجهون لها بقلوبهم وأفكارهم، وإن ردّدت ألسنتهم الشهادتين.
هل ثمة مجال أو حتى متسع للوقت لأن نهدر قوانا فيما لم نكلف به أساساً، وما قيمة ذاتك أيها العبد المسكين ويا أيتها المرأة التي غرروا بها، ما قيمة ذات المرأة إن خرجت عن منظومة العبودية لله، التي ينسجم الكون كل الكون فيها بتناغم وتناسق
فرعاية المرأة تقوم على تربية العقول والأفكار، وتعهّد الأفراد بالصلاح، وإنّ بيتها من أهم الثغور والحصون التي أوقفها الله عليها مرابطة مجاهدة، وإن كانت الأموال لا تؤتى السفهاء، فهل يعقل أن تترك الأسر لغير راعٍ قد أنشأه الله إنشاءً لهذه المهمة الجليلة!
إن الأفراد أعزّ وأثمن من كل المقدرات؛ إذ هم عماد الأمة، وبصلاح الراعي لهم يستقيموا ويصلح حالهم ومآلهم، فهل بقي لنا حجة ألا نفهم أمر ديننا، وتكاليف شرعنا من مصادره لا من أعدائه؟!
إنّ هذه الحياة أشبه بمؤسسة كبيرة وزعت بها الوظائف والأدوار كل وفق وسعه وقدرته، وأي اعتراض أو أي محاولة لانسلاخ أي فرد من وظيفته الأساسية إنما يؤدي ذلك لفوضى عارمة تسود المجتمعات ، وقيام المرأة بدورها الأساسي كمربية وصانعة للأجيال، إنما هذا جزء من عبوديتها لله، فإن رضيت بما كلّفها الله به فإنما تكون سنداً لغيرها في قيامه بواجبه تجاه ربه وأمّته، وإن سخطت وأصغت للدعوات الهدّامة التي أدركت أهمية وظيفتها، فآلت على نفسها أن تكون المعول الذي يهدم الأمة بهدم لبنتها الأساسية -وهي المرأة- وقتها ستكون المرأة الشريك الأساس في عملية الهدم، وأولى خطوات الانحطاط والسير نحو الهاوية ولكن بخطوات أسرع، ولا يعني هذا أن تظل المرأة حبيسة بيتها، فلها أن تشارك المجتمع بآلامه وآماله، وأحلامه وطموحاته، هزائمه وانتصاراته، لكن بشريطة أن لا يكون هذا على حساب وظيفتها الأساسية؛ لأن التقصير في هذه الوظيفة إنما هو تقصير في حق الأمة كلها، وليس في حق أسرة واحدة، والفروض تقدم على النوافل، والضروريات على الحاجيات والتحسينات.لا يعني هذا أن تظل المرأة حبيسة بيتها، فلها أن تشارك المجتمع بشريطة أن لا يكون هذا على حساب وظيفتها الأساسية؛ لأن التقصير في هذه الوظيفة إنما هو تقصير في حق الأمة كلها، وليس في حق أسرة واحدة
فعلى الإنسان خليفة الله في الأرض أن يفهم ويفقه ويعمل وفق التصور الشرعي لوجوده على هذه الأرض، لا وفق التصور الغربي الذي يصب جلّ اهتمامه على إخراج المرأة بداية من إنسانيتها وفطرتها، لتصبح سلعة تباع وتشترى تلبية لرغباتهم وشهواتهم، وبالتالي، القضاء على أجيال كاملة من الذكور والإناث، فيعيشون بلا غاية ولا هدف، وإنما كما البهائم بل أضل سبيلاً، {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}[الفرقان: آية44]، وقتها يذعن هذا الإنسان إذعان العبد الذليل لسيده ومولاه، فيرتقي ويحقق كرامة الدنيا، وعز الآخرة، وأما أولئك الذين يعيثون في الأرض فساداً، ويعكّروا صفو الفطرة، فحسبهم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور: آية19].