لم تكن ظاهرة الغلو والتطرف الفكري وليدة الظروف الراهنة، أو مختصة بمجال معين، فهي موجودة منذ أقدم العصور، ومنذ أن وُجد الإنسان على الأرض، ومع ذلك، ورغم تخطي البشرية آلاف السنين، لا تزال هذه الظاهرة تجد من يساندها ويدعمها، رغم خطورتها على الحضارة والمدنية الإنسانية، فما هو التطرف الفكري وأسبابه وآثاره؟ وماهو الدور المطلوب من المجتمع والأسرة والمساجد لمعالجة هذه الظاهرة؟
والانحراف الفكري: هو الفكر الذي لا يلتزم بالقواعد الدينية والتقاليد والأعراف، والنُظُم الاجتماعية المُلزمة لأفراد المجتمع وفق المختصين.
وفي هذا الإطار، قال الدكتور "فضل أبو هين" -المحاضر في علم النفس بجامعة الأقصى بغزة-: "إن مجالات الانحراف الفكري تتعدد، فمنه الانحراف الفكري السياسي، والانحراف الفكري الديني، والانحراف الفكري الإعلامي، وغيرها".
وأشار إلى العوامل التي تتسبب في الانحراف الفكري، ومنها الغلو والتطرف، وهو مجاوزة الحد، ويكون بعدم الاعتراف بالرأي الآخر، ومصادرته لمسائل الاجتهاد، وفهم النصوص الشرعية على غير مرادها، فيصل الأمر بالشخص المنحرف فكرياً إلى التبديع والتكفير والتخوين، وهدم صروح الغير.
وقال "أبو هين" في حديث لبصائر: "كما أن هامشية المؤسسات الاجتماعية تُعدُّ سبباً في الانحراف الفكري، مثل: المدارس والمساجد والجامعات، فهذه المؤسسات لا يُهتم فيها بتنمية الفكر الصحيح".
وأضاف: "كما أن بيئات التوتر والصراع سببٌ في الانحراف الفكري ، ولذلك كثرة الجماعات وتعدّد الصراعات السياسية، والمذاهب الفكرية، أخرجت لنا انحرافاً فكرياً متشعباً".
ولفت إلى أن اليأس والإحباط سببٌ آخر من أسباب الانحراف الفكري، فإذا غلب اليأس والإحباط على الفرد، شعر بالنقص، وانعدام الأمل، والانتقاص الذاتي، فهذه المشاعر وغيرها تجعله فريسة سهلة لأفكار ومعتقدات منحرفة من أجل تغيير الواقع.
من جهته قال الدكتور "باسم بشناق" -أستاذ مشارك في كلية القانون والشريعة بالإسلامية-: "إن التربية المغلوطة داخل الأسرة والمجتمع، تدفع الفرد والأبناء إلى التطرف؛ لأنها تمثل القواعد الأساسية الصلبة في حياة النشء ".
وأضاف: "الأسرة هي اللبنة الأولى في بناء النشء والمجتمع، ولذلك فهي تهيئ الظروف لانزلاقهم للتطرف والعنف إن لم يتم سدّ احتياجاتهم، وحل مشاكلهم، وقضاء الوقت معهم، وخاصة في مرحلة المراهقة والشباب".
ولفت إلى أن وسائل الإعلام من أكثر الأسباب دافعيةً لتكوين الاتجاهات والأفكار المنحرفة، من خلال الإنترنت ووسائله الحديثة، سواء كانت هذه الوسائل مقروءة أو مسموعة أو مرئية.
وتطرق "بشناق" في حديث لبصائر إلى الآثار التي يمكن أن يتركها الانحراف على الأمن الفكري والعقائدي في المجتمع قائلاً: "الانحراف الفكري يمكن أن يدفع الفرد إلى زعزعة الثوابت العقائدية، والمقومات الأخلاقية والمجتمعية، والإفساد في الأرض، و الجريمة وبث روح الكراهية بين مختلف طبقات المجتمع".
وأوضح أن الانحراف ربما يؤدي إلى إثارة الشبهات دون أدلةٍ أو اعتبارات شرعية، وعدم اعتبار فقه المصالح والمفاسد، وفقه السياسة الشرعية، وكذلك إخراج النصوص الشرعية عن سياقها وفهمها الصحيح، فترتب على ذلك إلقاء الأحكام دون تأصيل ونظرٍ واستدلال، أو الرجوع للعلماء الربانيين.
وأضاف: "غالباً ما يسعى صاحب الفكر المنحرف إلى إثارة الجدل والفتن، وممارسة العنف والتشدد، وتهديد كيان المجتمع واستقراره، وانتهاج سلوك مدمِّر للأفراد مُتمثل في الظلم، والاعتداء وبث روح الكراهية".
أما الوقاية والعلاج من الفكر المنحرف وفق "أبو هين" و"بشناق"، فهو مناط بعددٍ من الاعتبارات، منها: دور الأسرة، فهي المساهم الأول في الوقاية من مشكلة الانحراف الفكري، من خلال جعل أفكار الوالدين أفكاراً سوية وعقلانية وموضوعية، وأن يكون الوالدان قدوة مثالية في التعامل مع أنفسهم ومع الآخرين، وكذلك المراقبة الواعية للأبناء؛ حتى لا ينجرفوا إلى التيارات الفكرية المنحرفة، وأن يحرص الوالدان على اختيار الصحبة الصالحة لأبنائهم.
وأشارا إلى دور وسائل الإعلام، فهي سلاح ذو حدين، ولها دورٌ كبير في توضيح الحقائق، ونشر الوعي، وصحة المعلومات، بما يوضح الصورة أمام الجميع من خطر الانحراف الفكري.
وأكّدا على دور المساجد من خلال إحياء المجالس العلمية والشرعية، والدورات التي تُسهم في غرس العقيدة السُّنية الوسطية، والتحذير من البدع والانحرافات الفكرية المعاصرة، وهذه الدورات والمجالس لابدّ أن يقوم عليها كادر متخصص في نشر عقيدة أهل السنة والجماعة.
وقال "بشناق": "لابدّ من إقامة مرجعية شرعية موحدة، بعيداً عن الحزبية المفرطة، تقوم بنشر البيانات العلمية التوعوية الهادفة، وتوحيد الفتاوى الشرعية، ومناظرة أصحاب الفكر المنحرف على كافة مشاربهم وتوجهاتهم، وهذا يحتاج إلى كادر متخصص ومؤصل فكرياً وعقدياً".
وأضاف: "كذلك لابدّ من إبراز الحوار الهادف، وهو فسح المجال للرأي الآخر، وقبول الحوار معه، واستخدام سلاح الحجة والبرهان والإقناع، سواء كان هذا الآخر مغايراً في السياسة أو الفكر أو المنهج، وإقامة المجالس الحوارية التي توصل إلى نتائج مُرضية لجميع الأطراف".
ولفت إلى أهمية إنشاء هيئات ومعاهد شرعية؛ حيث إن الفكر لا يُعالج إلا بالفكر ، وتوضع لهذه الهيئات والمعاهد منهجية علمية متخصصة في كافة العلوم الشرعية، بحيث يكون لديها بعد فترةٍ من الزمن نتاج علمي قوي، وأبحاث محكمة في الردّ على الانحرافات الفكرية المعاصرة.