"خمر الغفلة"... مصطلح نحته المفكر الإسلامي الراحل، الشيخ محمد الغزالي، واصطكَّه من واقع واسع الانتشار في أوساط المسلمين في زمننا المعاصر.
وفي حقيقة الأمر، فإن الغفلة هي من أكثر الأمور التي تقود الإنسان إلى المهاوي والضياع، وخطورتها في أنها خطر كامن، غير منظور، لا يمكن للإنسان إدراكه إلا بعد فوات الأوان ، إلا أن يكلأه اللهُ تعالى برحمته ويرزقه البصيرة قبل ذلك.
وتتصل هذه القضية بحزمة من الأمور التي لا تتصل بقضية الرقائق والمروءة كما قد يظن البعض، حيث الأمر متصل بأكثر من جانب، هي الأهم في عقيدة الإنسان، وفي عمله بشريعة ربه.
ويكفي في هذا الصدد الإشارة إلى أن غفلة الإنسان، تعني انصرافه عن أكثر من مركزية، منها القيم والأخلاقيات التي دعاه الدين إليها، وكذلك عدم إدراكه لحقيقة دوره ورسالته في الحياة الدنيا، ويشمل ذلك أداء العبادات بشكل سليم، ومراعاة المسلم للهِ تعالى في السرِّ والعلن.
والغفلة لها أكثر من معنىً بين اللغة والاصطلاح، فهي لغةً، تعني السهو الآتي من قِلَّة التحوُّط واليقظة، وغيبة الشيء عن بال الإنسان، وعدم تذكُّره له، وبالتالي إهماله والإعراض عنه.
أما في الاصطلاح، وهو المعنى الذي نقصده، فهي تعني متابعة النفس على ما تشتهيه، وبالتالي فهي تتصل بقضية الإعراض والإهمال المشار إليه.
وبالتالي فإن الغفلة تعني بشكل عام، الابتعاد عن الدين، سواء إهمالاً أو نسيانًا ، وهو من أخطر الأمور، كما يتضح من الطريقة التي تكلم بها القرآن الكريم عن هذا الأمر.
وحتى عندما يقوم هؤلاء ممَّن طُمِسَتْ نفوسهم وأرواحهم بخمر الغفلة، بالتورُّع عن ذنوب يعرفونها، فإنهم إنما يتورَّعون بحكم أنهم لم يعتادوها في بيئتهم، ولكن ليس عن مُكوِّن أخلاقي أو باعث قيمي مرتبط بالدين، أو ما شابه، ولكنه –في واقع الأمر– في غفلة وجهالة وهو لا يدري.
ولكنها أسوأ من تيه الخمر وجنونها على عقل الإنسان، ففي القرآن الكريم آيات تتناول هذا المعنى، وهو من علامات غضب الله تعالى على الإنسان والعياذ بالله، في بعض الأحيان.
ومن ذلك قول الله تعالى في وصف أهل الضلال والكفر: {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} [سُورة الذاريات- الآية:11]، ويقول أيضًا: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [سُورة الأنعام- من الآية: 91]".
والغفلة وفق المفهوم القرآني، ومَن أصدق من اللهِ حديثًا! هي صنو الضلال، وارتبطت بأمراض القلوب... يقول تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ(1) مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ(2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ(3)} [سُورة الأنبياء].
ولعل الغفلة هي من أكثر الأمور ارتباطًا بفعل الشيطان الرجيم مع الإنسان، فهي سببٌ لوساوسه عليه لعنات الله والملائكة والناس أجمعين، كما أنها نتيجة لهذه الوساوس، حيث يضل الإنسان في النهاية ويشقى.
الغفلة هي من أكثر الأمور ارتباطًا بفعل الشيطان الرجيم مع الإنسان، فهي سببٌ لوساوسه عليه لعنات الله والملائكة والناس أجمعين، كما أنها نتيجة لهذه الوساوس، حيث يضل الإنسان في النهاية ويشقى
وفي عالمنا المعاصر، فإن "خمر الغفلة" التي يتعاطاها البعض عن قصد أو من دون قصدٍ، باتت مرتبطة بكثير من الأمور والساحات الواسعة التي تستوجب من المسلم أخذ جانب الحذر.
فهناك الإعلام، وهناك أزمات لقمة العيش، وهناك ضعف الخطاب الديني في المجال التطبيقي، الذي يُعنى بتبصرة المسلم بحقيقة دينه، ودقائق رسائله وواجباته في الحياة الدنيا وفق منظور الشريعة الإسلامية.
وكذلك نقف في هذا الموضع عند أثر الحياة المعاصرة، بكل بريقها ومغرياتها، في استدراج الإنسان إلى تطلعات وطموحات، وأولويات مغايرة، تخرج به عن رسائله في هذه الحياة، وبالتالي يحدث التقصير، بل والانصراف عن الواجبات التي سوف يحاسَب عليها المرء أمام ربه.
نقف في هذا الموضع عند أثر الحياة المعاصرة، بكل بريقها ومغرياتها، في استدراج الإنسان إلى تطلعات وطموحات، وأولويات مغايرة، تخرج به عن رسائله في هذه الحياة، وبالتالي يحدث التقصير، بل والانصراف عن الواجبات التي سوف يحاسَب عليها المرء أمام ربه
ولعل هذه القضية، أن تكون على قائمة جدول أولويات الصحوة الإسلامية في وقتنا الراهن، حيث هي –وفق الرؤية السابقة– مرتبطة بأهم القضايا التي تُعنى بها الصحوة، وهي إعادة ربط المسلمين بدينهم، وتصحيح رؤيتهم له، وما يفترضه عليهم من أمور وواجبات ومهام.
ونقف هنا عند الموقف الذي دفع الشيخ الغزالي إلى نحت مصطلح "خمر الغفلة"؛ لكي نأخذ منه دروسًا مستفادة في هذا الصدد.
الموقف يتلخص في أنه قد التقى ذات يوم رجلاً اعتاد شرب الخمر وطلب منه التوبة إلى الله تعالى، فطلب منه هذا الرجل، أن يدعو الله سبحانه له بالهداية.
الغزالي يقول: "تأملت في حال الرجل، ورقّ له قلبي. إن بكاءه شعور بمدى تفريطه في جنب الله، وحزنه على مخالفته، ورغبته فى الاصطلاح معه، إنه مؤمن يقينًا، ولكنه مبتلىً! وهو ينشد العافية ويستعين بي على تقريبها".
ثم يضيف: "قلت لنفسي: قد يكون حالي مثل هذا الرجل أو أسوأ. صحيح أننى لم أذق الخمر قط، فإن البيئة التي عشت فيها لا تعرفها، لكني ربما تعاطيت من خمر الغفلة ما جعلنى أذهل عن ربي كثيرًا، وأنسى حقوقه. إنه يبكي لتقصيره، وأنا وأمثالي لا نبكي على تقصيرنا، قد نكون بأنفسنا مخدوعين".
ويقول إنه قد أقبل على هذا الرجل، وقال له: "تعالَ ندع لأنفسنا معًا... (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين)".
وهناك خلاصات كثيرة يمكن الخروج بها من هذه العبارات الموجزة، والموقف الذي قد يبدو قصيرًا، ولكنه عظيم القيمة.
أول شيء، هو ضرورة عدم تعالي القائمين على أمر الدعوة، على فكرة أنهم هم أنفسهم من المقصرين، وألا يتعالوا على عوام الناس بما يظنون أنهم قد وصلوا إليه من "مكانة" أو "ارتقاء إيماني".
الداعية مطلوب منه دائمًا المراجعة الذاتية التي تساعد على معالجة أوجه الخلل العديدة التي تأتي بالأساس من الغفلة
الدرس الثاني، هو المراجعة، حيث الداعية مطلوب منه دائمًا المراجعة الذاتية التي تساعد على معالجة أوجه الخلل العديدة التي تأتي بالأساس من الغفلة. غفلة تعاظُم الانشغالات. غفلة أمراض القلوب، أيًّا كان سببها.
وذلك يفتَرِض على الدعاة أمرَيْن. الأول- التفقُّه في الدين، والمراجعة المستمرة للمعلومات الفقهية في مختلف المجالات، والثاني- المثابَرة والعزيمة على الأمر، بكل واجبات هذه المثابَرة، وعلى رأسها الامتزاج بالجمهور، والتعاطف معهم، حيث غرض الداعية المسلم هو هداية الناس، لا النفور منهم بسبب معصيتهم، وبالتالي تنفيرهم من فكرة التديُّن، وإشاعة صورة سلبية عن الإسلام، من أنه يغلق الباب أمام العصاة والمذنبين، حيث هذا أبعد ما يكون عن طبيعة هذا الدين.