القرآن الكريم الشريان الذي يبعث الحياة فينا، فهو الرحمة والهداية للعالمين، ودليل سعيك في الحياة، وبوصلتك في الوجهة والغاية من وجودك، لا تقتصر الغاية منه على التعبد في تلاوة حروفه، فما أُنزل إلا ليكون دستور حياة، والمرجع الأصيل فيها لكل صغيرة وكبيرة.
بتعاملك مع القرآن الكريم على أنه المنهل الذي تنهل منه، والمائدة التي تتربى وتستقيم عليها، والنور الذي تستضيء به في دروبك، فيترجم واقعك وسلوكك حروفه ومعانيه، يتجلى لك بذلك الكثير من المعاني، ويسبر لك حقائق الأمور غير مكتفياً للوقوف عند ظواهرها، وسورة البروج تشتمل على حقائق نورانية تلخص لك حقيقة الصراع في هذا الوجود، وتحدد لك معالم الانتصار، وموازين الأمور التي تختلف عنها في أفهام البشر العاديين، والتي لا تتجاوز نظرتهم حدود هذه الحياة الفانية، بل وتبث في روعك الطمأنينة والسكينة، إلا أن حكم الله فينا ماضٍ لا راد له، ففيه الفوز والفلاح إن ارتضيناه، والخسران والذلّ لمن خالفه واتبع أمر هواه.
فهذه السورة العظيمة ترسم لنا المعالم، وتضيء لنا الدروب، وتضع نصب أعيننا حقائق في غاية الوضوح كما الشمس في كبد السماء، وتوجه خطانا إلى الطريق الصحيح، وتصوّب أبصارنا لمعالي الأمور، وحقائقها مترفعة بنا عن لوثة التثاقل إلى الأرض، فتركّز جهدنا وسعينا حول ما كُلّفنا به دون الالتفات للنتائج، أو الانغماس في النهايات الأولية على هذه الأرض، ولا تخطف أبصارنا وهج الومضات عن النور التام، ومن المعالم التي توضحها لنا سورة البروج وتقر حقائقها:
المَعلم الأول: طريق الدعاة إلى الله هو طريق واحد وإن تعددت الأزمان، واختلفت الأماكن، طريقٌ محفوف بالأشواك والدماء والأشلاء، كابده الأنبياء، وسار على أثرهم الدعاة، فهذه سنة الله في خلقه لقوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ(2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ(3)} [العنكبوت]، ويقول صلى الله عليه وسلم: (قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) (رواه البخاري) ، فقد يدفع المرء في سبيل دعوته أثمن ما يملك من روح ووقت ومال وجهد ، فما الراهب وجليس الملك والغلام وكل سالك لهذا الدرب إلا مشاعل نور على طريق الدعوة إلى الله، من جماجمهم وأشلائهم تُبنى وتُرصف دروب الانتصار والتمكين.
طريق الدعاة إلى الله هو طريق واحد وإن تعددت الأزمان، واختلفت الأماكن، طريقٌ محفوف بالأشواك والدماء والأشلاء، كابده الأنبياء، وسار على أثرهم الدعاة، فهذه سنة الله في خلقه
المَعلم الثاني: أنّ المعركة بين المؤمنين وأعدائهم إنما هي معركة عقيدة لا غير، فمهما رَوَّجوا لها -وبغض النظر عن الراية التي رفعوها، أو تحت أي شعار روجوا لحروبهم ومعاركهم- يبقى الصراع أبدياً بين الكفر والإيمان، وتبين لنا سورة البروج أنّ حقيقة العداء المستعر في قلوب أعداء المؤمنين والنقمة المتوارثة بينهم جيل عن جيل، إنما هي بسبب عقيدة أهل الإيمان، لقوله تعالى: {مَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سورة البروج، آية:8].
المعركة بين المؤمنين وأعدائهم إنما هي معركة عقيدة لا غير، فمهما رَوَّجوا لها -وبغض النظر عن الراية التي رفعوها، أو تحت أي شعار روجوا لحروبهم ومعاركهم- يبقى الصراع أبدياً بين الكفر والإيمان
المَعلم الثالث: أهل الباطل استحكم فيهم العداء لدرجة أنهم تجردوا بها من إنسانيتهم، فهم يتفننون ويبدعون في إيقاع أشد العذاب بالمؤمنين، بل يتمتعون بذلك لدرجة أنهم يشهدون ويرقبون بأنفسهم عمليات القتل والتعذيب المنظمة تحت إشرافهم، فإن كانت وحوش الأرض تصطاد فريستها لتأكلها، فهؤلاء يقتلون ويعذبون؛ ليتلذذوا، فقد نضبت معاني الإنسانية في قلوبهم، وانتكست فطرتهم، وانحطت طباعهم عن طباع الوحوش.
المَعلم الرابع: ثمة قيم أعز وأجل قدراً من قيمة الحياة نفسها، إنها قيمة العقيدة، العقيدة التي في سبيلها تهون الحياة، بل تتلاشى وتفقد قيمتها، فالثلّة المؤمنة كان بإمكانها أن تنتصر لحياتها، وتؤثر سلامتها، وتتراجع عن إيمانها، فتنجو من الموت، لكنهم يدركون أنه لا قيمة للحياة بلا عقيدة، وأنّ الموت واحد وإن تعددت الأسباب، وأنه لا قيمة لوقت إضافي يمنح لأنفاسك ما دام الموت كأساً سيتجرعه المرء مهما طال عمره وبلغ، فنحن نمشي إليه بخطى ثابتة، وسهمه لن يخطئ، ولو كنا في بروج مشيدة، أو حصون محصنة، يقول عزوجل: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} [النساء، آية:78]، فأن تجود بروحك وتلفظ أنفاسك على طريق الحق بعزة وشموخ، خير لك من أن يضاف لعمرك أعمار في الذلّ تحت عروش الظالمين .
ثمة قيم أعز وأجل قدراً من قيمة الحياة نفسها، إنها قيمة العقيدة، العقيدة التي في سبيلها تهون الحياة، بل تتلاشى وتفقد قيمتها
المَعلم الخامس: إهمال نهاية أصحاب الأخدود فالآيات الكريمة في هذه السورة لم تذكر التعجيل في عقوبتهم، كما حدث مع الأقوام السابقة: كقوم عاد، وهود، وغيرهم، وإنما ذكرت نهاية الثلّة المؤمنة في باطن الأخدود والنيران تلتهمهم، وأهل الكفر فرحون بالمشهد المروّع، آمنون مطمئنون لعلُّوهم وانتصارهم، لكن ثمة درس لا بد من أن نتشربه ونوقن به ونطمئن إليه، أن المعركة لم تنتهِ، وأن الله يخبرنا بالنهاية الحقيقة لكل المستكبرين المعاندين، حيث محكمة العدل الربانية ستنصب، ولكن ليست في هذه الحياة، وإنما بتلك الدار الخالدة، فنهايتهم أكيدة، ومصيرهم معلوم يخبرنا الله جل وعلا بذلك: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج، آية:10]، فشتّان بين عذاب وعذاب، والفرق بيّن شاسع بين نار يضرمها بشر، وبين تلك النار التي يضرمها رب البشر!
المَعلم السادس: على السالك طريق الدعوة إلى الله ألا يشغل نفسه بالنتائج، إذ مناط تكليفه أن يأخذ بالأسباب، ويقوم بما عليه من تكاليف وفروض ، وأن الخطوات في طريق الدعوة متتابعة عبر هذه الأجيال، فقد يزرع جيل ويحصد جيل آخر، وقد يمتد الصراع أزماناً، ونقضي دون أن نشهد فرحة الانتصار على وجه هذه البسيطة، فلا يدفعنا ذلك لليأس والقنوط؛ لأن هذه نظرة قاصرة ينظر بها الإنسان العجول، أما النظرة التي يوجّهنا القرآن إليها، ويربي أتباعه المؤمنين عليها، هي اليقين بوعد الله للمؤمنين بالتمكين: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور، آية:55]، ويبشَّر الذين قضوا في هذا السبيل بأنهم أحياء عند الله؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران، آية:169] وتأتي البشرى من الله في سورة البروج؛ لتصحح أفهام الناس وتوجههم للنظر لحقائق الأمور ومآلاتها: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج، آية:11]، وأن نتيقن بوعيد الله لهؤلاء الذين ينتقمون ويعذبون المؤمنين، الفرحين بانتصارهم الدنيوي، إذ يطمئننا الله أن ثمة امتداداً لهذا الصراع بين الكفر والإيمان، فلا يحزننا انتصاراتهم التي يتقلَّبون بها، فما هي إلا نتائج أوليّة، والعبرة في الختام؛ لقوله تعالى: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران، الآيات:196-197]، وانظر للطمأنينة واليقين الذي تستنشقه مع أنفاسك وأنت تتدبر قول الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَار} [إبراهيم، آية:42].
فأي سبيل يستحق أن نسلكه، وأي مصير سيؤول إليه كلا الفريقين يدفعنا أن نرتضيه ونؤثره؟! فهل لذة الراحة ونشوة النصر في حياة آخذة الزوال تعدل مثقال ذرة مما عند الله في حياة خالدة لا يشوبها كدر ولا ألم، وما قيمة هذه الفانية بكل ما فيها من لذّات ومسرّات، وآلام وعذابات وجراح إذا كان ذلك سينقضي كله، ونقف جميعاً لتنصب محكمة العدل الربانية، والكل شهود لا يضيع عنده -جل شأنه- مثقال ذرة، فأي طعم يبقى للذّة انتصار ماضية وأي آلام سيتذكرها الفائزون وقتئذ؟! وصدقت يا حبيبي يا رسول الله: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة ثم يقال: يا بن آدم هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا بن آدم، هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط" (رواه مسلم).