صارت جريمة الخوض في الأعراض والإشارة للمشاهير من أهل الفن والسياسة وحتى الدين بالوقوع في الفواحش مسألة يسهل الوقوع فيها ويكثر الواقعون في براثنها، رغم أن الكثير منها يكتب بحسن نية بحجة نصرة قضية ما أو النيل من تيار معين انتصاراً للنفس دون أن يشعر صاحبها أو تبرؤاً من الفعل.
ومن أهم أسباب الوقوع في تلك الجريمة، الخلافات الحادة التي تقع بين أيدلوجيات مختلفة، فتجد ضعاف الضمير يلجئون إليها لكسب معرّة خلافية بشكل سريع بتشويه سمعة الفرد والنيل منها، فتسقط قضاياه معه، وقد تلجأ لها مؤسسات رسمية لتشويه المعارضين لها.
ويساعد على انتشار تلك الآفة عدم تجنب الشبهات من الكثيرين، فتجد الصور التي تدعو للريبة وانتهاج سلوكيات ونشر كلمات تسيء للذوق العام فيستغلها البعض في النيل من أصحابها.
أيضا تجمع تلك المواقع جميع الناس بمختلف ألوانهم ومستوياتهم الاجتماعية وعقائدهم وسلوكياتهم علاوة على الأسماء الوهمية والاختباء خلف الشاشة، مما يكسر قيود الحياء والخوف من المحاسبة، فيتجرأ الناس على الخوض مع الخائضين دون خشية من عقاب أو لوم.
كذلك فساد الذمم ومحاربة الأنظمة لكل ما يمثل الدين، واختفاء وسائل ردع المتطاولين على أعراض الناس جعلها وسيلة سهلة لتصفية حسابات خارج إطار القانون تنال من الأبرياء ولو لوقت من الزمان، حتى يستطيعوا إثبات براءتهم أو تعرضهم للظلم البين.
وكم من بيوت آمنة انتهكت حرمتها بالتشهير الكاذب، فتمزق شملها وذهب أمانها مع ريح الانتقام والكذب والتدليس!
وكم من نساء محصنات كانت مواقع التواصل الاجتماعي سببا في انفصالهن عن أزواجهن بسبب كذبة واتهام بالباطل!
وكم من فتيات في عمر الزهور فقدن سمعتهن الطيبة بسبب غيرة الأقران أو شاب لم يستطع نيل إحداهن!
وتخيل أخي القارئ وأختي القارئة حال البيت المسلم حين تتعرض إحدى بناته لشائعة وهي بريئة، كيف يكون حال الأم وحال الأب وحال الفتاة نفسها وهي لا تملك دليلاً أو سبيلاً يبعد عنها الشبهة، كما لم يملك من قام بتشويهها دليلاً على فعل غير أخلاقي ارتكبته.
تخيل حال زوج طعن في عرض زوجته، ولا يستطيع إيقاف منشور يحمل كلمات مسيئة إليها ولا يملك سبيلاً لإيقافه من الانتشار!
تخيل حال نساء حرائر يتعرضن لكلمات نابية لمجرد انتمائهن الفكري وزيهن الإسلامي!
تخيل مشاعر المظلوم وهو يتوارى من نظرات الناس وهمسهم خاصة أن الشائعة في بلادنا تجد طريقها السريع للآذان والصفحات، بينما مجابهتها وتكذيبها يكون بطيئاً يقف فيها الظلوم قليل الحيلة مكتوف الأيدي يشكو بثه وحزنه إلى الله.
الشائعة في بلادنا تجد طريقها السريع للآذان والصفحات، بينما مجابهتها وتكذيبها يكون بطيئاً يقف فيها الظلوم قليل الحيلة مكتوف الأيدي يشكو بثه وحزنه إلى الله
الشرع يحذر من الخوض في الأعراض
وقد حذر الإسلام من الخوض في أعراض الناس والنيل منهم، والإشارة لأحدهم في كلام ينم عن الفاحشة ولو بمجرد الإشارة التي يفهم منها القارئ المقصود بالكلام المنشور، والخائض في أعراض الناس هو بين مصيبتين: إما أنه صادق وهنا ينطبق عليه قول الله تعالى: "إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" {النور:19}. فالحديث في مثل تلك الأمور يجرئ الآخرين على الخوض فيها، ويبيح لآخرين الاستماع إليها حتى يعتادوها، فتنتشر كلمات الفاحشة والرذيلة في المجتمع، لذا جعل الله عز وجل عقوبة الخوض في العرض ثمانين جلدة وهي قريبة من عقوبة الفاعل الغير محصن (مائة جلدة) لخطورة تعويد الأسماع لتلك المفردات.
وإما أنه كاذب أو مجرد مشتبه فيكون حكمه كما ورد في الأثر عن أبي الدرداء رضي الله عنه: "أَيَّمَا رَجُلٍ أَشَاعَ عَلَى رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِكَلِمَةٍ، وَهُوَ مِنْهَا بَرِيءٌ سَبَّهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُذِيبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي النَّارِ حَتَّى يَأْتِيَ بِإِنْفَاذِ مَا قَالَ".
والحقيقة أنه لا يليق بمجتمع مسلم كل آياته وأحاديثه وأدبياته وتاريخه مبنية على اليقين والدقة والتثبت أن يتم تداول أخبار فيه تنبني على الظن والشك والتخمين خاصة فيما يتعلق بأعراض الناس وسمعتهم لما يعارض ذلك من قاعدة درء المفاسد عن المجتمع، وما ينجم على تلك المسألة من مفاسد واضحة.
ولذلك جاء النهي الصريح من النبي صلى الله عليه وسلم عن تلك السقطات البشعة، والمسالك المنحرفة، ففي الصحيحين أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله كرِه لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال".
يقول ابن القيم -رحمه الله-: "من عُني بالنار والفردوس شُغِل عن القيل والقال، ومن هرب من الناس سلِمَ من شرورهم".
ولأن حرمة الأعراض في الإسلام كبيرة وعظيمة، فإن من أعظم الظلم التعرض لحرمة المسلمين وأعراضهم لدافع الكراهية، أو المخالفة في الرأي أو المنهج أو الأيدلوجية، وقد صحَّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "الربا اثنان وسبعون بابًا، أدناها مثل إتيان الرجلِ أمَّه، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عِرْض أخيه" (رواه الحاكم). وفي حديثٍ آخر: "أربى الربا شتم الأعراض".
إن من أعظم الظلم التعرض لحرمة المسلمين وأعراضهم لدافع الكراهية، أو المخالفة في الرأي أو المنهج أو الأيدلوجية
وقد يكتب البعض في هذا الشأن من باب أن الخبر منتشر وأن الجميع يخوضون، وتلك جريمة أكبر، فلو أن الآلاف خاضوا في عرض بريء، فقد استوجب الآلاف الحد عليهم، فكثرة الفاعلين لا تخفف جرم الفعل، وقد ضمن الإسلام سلامة الفرد من ألسنة الناس، كذلك ضمن سلامة المجتمع كله من خوض كل أفراده، فعلى كل مسلم أن ينشغل بنفسه فقط بتهذيبها والنهوض بها وإصلاحها وتربيتها والعلو من شأنها، ثم يتحرك بها في المجتمع إصلاحا وطهرا وعفة.
ففي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قال في مؤمنٍ ما ليس فيه أسكنَه الله رَدْغَة الخَبال حتى يخرج مما قال". ورَدْغَة الخَبال: عصارة أهل النار.
وفي الصحيحين قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقُل خيرًا أو ليصمُت".
وفيما رواه الطبراني بسندٍ حسنٍ: "فلا تقل بلسانك إلا معروفًا، ولا تبسط يدكَ إلا إلى خير".
وقد مر بنا من قبل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}، ولهذا نصَّ أهل العلم على أن من علامات الحمق: ترك التثبُّت، ونشر الأخبار الواهية، والظنون الباطلة، وتصيُّد الأحاديث الكاذبة، وسوء الظنون بالمسلمين، وحملهم على محامل السوء والشكوك.
والأصل الإسلامي هو حسن الظن وقد علمه الله للأمة المسلمة بعد حادثة الإفك التي كادت تودي بالمجتمع المسلم الوليد في المدينة فيقول ربنا: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ) [النور:12] لذا فالمؤمن الحق في رفعة من الوقوع في الخوض في عرض أحد، ونشر الكلمات التي تحمل عدة معانٍ يكون منها تلك الإشارة لتلك الفاحشة أو يفهم منها ذلك حتى لا يدخلوا في قول ربهم: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور:19].
المؤمن الحق في رفعة من الوقوع في الخوض في عرض أحد، ونشر الكلمات التي تحمل عدة معانٍ يكون منها تلك الإشارة لتلك الفاحشة أو يفهم منها ذلك
يقول أهل العلم: "وهذا فيمن أحبَّ إشاعتها وإذاعتها، فكيف بمن تولَّى كِبر ذلك".
وهو لغو ينأى المؤمن بنفسه عن الوقوع فيه فيدخل في زمرة المؤمنين الذين وصفهم الله في قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}، ويقول: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ}.
والخوض في أعراض الناس هو من أشد أنواع الغِيبة، وأضرها على أهلها، وأشرها وأكثرها عقوبة: وقد ورد في الصحيحين عن المعصوم -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبيَّن فيها يزِلُّ بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب".
والله عز وجل شهيد سميع رقيب مطلع، يسأل الإنسان عن سمعه وبصره وفؤاده وما تخطه يمينه، والكذب والادعاء والسوء والزور ينكشف حتماً، فليتخيل الإنسان نفسه حين ينكشف أمره في النيل من الناس، إن هو استطاع أن يحذفه من على صفحته في الدنيا، فكيف تستطيع محوه من صحيفتك يوم القيامة وعلى رؤوس الأشهاد!
قال الإمام أحمد: "ما رأيتُ أحدًا تكلَّم في الناس وعابَهم إلا سقط".
ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "واتق دعوةَ المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" (متفق عليه). وتلك وصية النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أمسِك عليك لسانك، وليَسَعك بيتُك، وابكِ على خطيئتك" (رواه أحمد والترمذي).
روى ابن سعد في الطبقات عن مُطرِّف بن عبد الله بن الشخِّير قال: "لبِثتُ في فتنةٍ ابن الزبير سبعَ سنين، ما خبَّرتُ ولا استخبَرتُ، وما سلِمت".
فكيف بمن خاضَ مع الخائضين، وتناول أعراض المسلمين، وخط بيمينه عنهم؟!