قائمة الأماني والأحلام والطموحات لا تنتهي ما دام في ابن آدم نَفَس يتردد، فلا يُحَصِّل واحدة حتى يتوق لأختها، وهكذا دواليك، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيما يلي من سطور إضاءات أرجو أن تكون ربانية، لكل من يبتغي رزقاً أو يرجو أمراً، حتى لا يتحوّل الطلب من عبادة لله لمتاجرة مع الله!
• كله ابتلاء:
ارتبط امتناع الرزق أو نقصانه في كثير من الأذهان بالابتلاء بمعنى المصيبة : فالله ابتلى فلانة بعدم الإنجاب، وآخر بعدم تيسر الزواج، وثالثاً بوظيفة أقل مما يبتغي، والحق أن كلاً من المنع والعطاء ابتلاء بمعنى اختبار، كما في قول سيدنا سليمان عليه السلام -لمّا مكّنه الله تعالى من عرش بلقيس- وجاءته: {قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم} [النمل: آية:40].فابتلاء العطاء يكون في الصبر والثبات على شكر الله تعالى وشهود المنة له، وصيانة النفس عن الطغيان والتجبر، ظنّاً منها أنها أوتيته على فضل عندها. وابتلاء المنع في المقابل لا يكون فقط في الصبر عن الممنوع، بل القناعة بالموجود والاستغناء بالمتوفر، وتوطين النفس على ثبات الغاية وتغير أقدار الوسائل، فلعلّ الله لا يقدّر لك أولاداً –مثلاً- لكن ذلك ليس مانعاً بحال من استمرار الحياة في سبيل الله، سواء بكفالة يتيم، أو بوسيلة أخرى من وسائل العبادة وإعمار الأرض بالصلاح، وهي كثيرة لا تنحصر في الأبناء.
لذلك من الأهمية أن نذكر دائماً أن ما نتمنى ونرجو إنما هي أماني ورجاءات، نعم قد نكون مفطورين على كثير منها، كالأمومة والأبوة، لكن ليس باللهفة والهلع والحرص الذي يحولّها لغايات، وليس بجحود يُنسي الواحد ما يعمّه من نِعَم، فيرى الحياة -بدون هذه بالذات- جحيماً مقيماً، والنعم الموجودة بالفعل كلها لا تساوي شيئاً إلى جانب الواحدة غير الموجودة!
بدلاً من التسخط على ما لم تؤتَ، اجتهد أن تفهم عن الله مراده منك فيما آتاك، وكيف تجعل مما منحك الله سبيلاً للقربى إليه، ومما منعك باباً للافتقار إليه، فالله قسّم الأرزاق كما الآجال قبل أن تنفخ فيك الروح، كما في الحديث: (إن أحدَكُم يُجمَعُ خلقُهُ في بطنِ أمِّهِ أربعينَ يومًا، ثمَّ يَكونُ في ذلك عَلقةً مثلَ ذلِكَ، ثمَّ يَكونُ مضغةً مثلَ ذلِكَ، ثمَّ يرسلُ الملَكُ فينفخُ فيهِ الرُّوحَ ويؤمرُ بأربعٍ كلِماتٍ: بكَتبِ رزقِهُ وأجلِهُ وعملِهُ وشقيّ أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح) [رواه مسلم].
بدلاً من التسخط على ما لم تؤتَ، اجتهد أن تفهم عن الله مراده منك فيما آتاك
• لا تنشغل بما خُلق لك عما خُلقتَ له:
ألست توقن يقيناً لا يخالطه شك أن الله لو شاء لأعطى ؟ لا يمنعه عن العطاء عجز وهو القادر القهار، ولا يُمسك عطاءه بخلاً، وهو تعالى الغني يداه مبسوطتان، ولا يُنقَص من ملكه مسألة سائل ولا حاجة محتاج؟ ألست تقرأ قوله تعالى: {ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكراً عليماً} [النساء: آية:147] ، فتوقن أنه تعالى لا يريد بك إلا خيراً، وهو أرحم بك من والديْك؟إذن، ماذا يترتب على هذا اليقين إذا صدق؟
أولاً- ألا تتحول أي أمنية إلى الهم الأكبر، والشغل الشاغل والهاجس المقيم. فكم من شباب في ربيع العمر وفورة الشباب ورَيْعان الطاقة، إذا مال القلب لألفة، توقف كل شيء عند تمني الزواج، فيقضي المتمني سحابة يومه في خيالات وكدر ودعاء وتضرع، ويستشعر حاجة نفسية رهيبة بغيرها، لا يمكن أن يهدأ قلبه أو تسكن نفسه، وقل مثل ذلك في تأخر الإنجاب، أو تعسر الوظيفة، وسائر ما يشغل من أمر المعاش! والداهية أن كل فريق يستشهد بآيات وأحاديث في عبادة العمل وكسب الرزق، وإعفاف النفس، واستكمال نصف الدين، كأن النصف الأول قد تمّ واستتب!
سبحان الله! هذا من تلبيس إبليس على المؤمن ليحزنه؛ لأن همّ القلب إذا تمكّن منه وطغى على يقينه، ثبّط النفس عن كل خير، وانقلب مرتعاً لخواطر السوء والتسخط من بطء الرزق، وشتّان بين دعاء مفتقر لا يعلم، فهو يفوض الأمر لمن هو أعلى وأعلم، ويطمع في الكرم ويحسن الظن، ويتأدب في كل الأحوال مع اختيار العليم الحكيم اللطيف الخبير، وبين الداخل على الله تعالى دخول العليم الخبير الواثق من اختياره، المتشنج لشروطه، فيكون لسانه في وادٍ وقلبه في أودية أخرى، وينافي بلهفته القلبية قول لسانه "إنك تعلم ولا أعلم"!
همّ القلب إذا تمكّن منه وطغى على يقينه، ثبّط النفس عن كل خير، وانقلب مرتعاً لخواطر السوء
وثاني ما يترتب على صدق اليقين بالله: أن تصرف جهدك وطاقتك ومخزونك النفسي فيما خُلِقْت له، ولن يضمنه أحد لك إن لم تقم به: إحسان العبادة لله تعالى، وتلمس آلاف السبل والوسائل لها، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ جَعَلَ الْهَمَّ هَمًّا وَاحِدًا كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ دُنْيَاهُ، وَمَنْ تَشَعَّبَتْهُ الْهُمُومُ لَمْ يُبَالِ اللَّهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَةِ الدُّنْيَا هَلَكَ ) [رواه الحاكم والبيهقي]. فليكن همك أن تصبح فتغنم في يومك قرباً من الله تعالى، وتمسي لم تكتسب إثماً، وتشتغل بأن توسع فقهك وفهمك للبر والإثم وعبادة الله عبادة حقيقية.
وفي صحيح مسلم أن أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "اللهم أمتعني بزوجي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية"، فرد النبي صلى الله عليه وسلم: (قد سألت الله لآجال مضروبة وأيام معدودة وأرزاق مقسومة! لن يعجّل شيئاً قبل حلّه، أو يؤخر شيئاً عن حلّه، ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النار، أو عذاب في القبر كان خيراً وأفضل) [رواه مسلم].