قائمة الأماني والأحلام والطموحات لا تنتهي ما دام في ابن آدم نَفَس يتردد، فلا يُحَصِّل واحدة حتى يتوق لأختها، وهكذا دواليك، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فيما يلي من سطور، إضاءات أرجو أن تكون ربانيّة لكل من يبتغي رزقاً، أو يرجو أمراً، حتى لا يتحول الطلب من عبادة لله لمتاجرة مع الله!
-عبادة الله تعالى غاية وليست وسيلة:
ليس من مسلم إلا ويحفظ قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات:56]، ومع ذلك قليل من يذكرها على أنها غاية الحياة وهدفها، وليس وسيلة أو مهمة ضمن أخريات، عبادة الله تعالى ليست وسيلة للرزق ولا للسعادة، بل هي الرزق وهي السعادة بذاتها ، في نفسها، ما عدا ذلك فكله وسائل وأدوات لتعين على تلك الغاية، ولا تشغل عنها، يُعطَى كل فرد منها نصيبه بقدر؛ لتكون زاداً يستعين به على استكمال الغاية، فليس كل أحد يؤتى من كل شيء، ولا كل من أوتي شيئاً يأخذ نفس مقدار صاحبه: {أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ورحمت ربك خير مما يجمعون} [الزخرف:32].
يكفي أن تكتب في محرك البحث على الإنترنت عبارة: "إذا أردت"، أو "تريد"؛ لتظهر لك نتائج مثل: إذا أردت تسريع الزواج عليك بسورة كذا، تريد بركة في الرزق عليك بآيات كذا، تريدين الإنجاب عليك بورد كذا وكذا...
يكفي أن تكتب في محرك البحث على الإنترنت عبارة "إذا أردت" أو "تريد"، لتظهر لك نتائج مثل: إذا أردت تسريع الزواج عليك بسورة كذا، تريد بركة في الرزق عليك بآيات كذا، تريدين الإنجاب عليك بورد كذا وكذا
لا جدال في ثبوت فضل أذكار وأوراد وسور في الأحاديث الصحيحة، لكن المؤسف هو ألا نذكرها إلا وقت رغبة ما، فإذا آتانا الله من فضله، تولّينا عنها ونسيناها كأن لم يكن شيء! مثلاً، كم ممن يلازم الاستغفار بنية تحصيل وظيفة، فإذا رزقه الله إياها أَلجَم لسانه -والعياذ بالله- ونسي الذكر بانقضاء الحاجة، كأنه "اشترى" الوظيفة من الله، ودفع ثمنها استغفاراً يحتاج لاستغفار منه! ووالله ما أوتي الرزق إلا بفضل الله لا فضل استغفاره؛ لأن الله لا يُلزِمه شيء إلا ما شاء، ولولا فضل الله ما وُفّق للاستغفار بداية، فإذا أراد الترقي في الوظيفة عاد يستغفر، فإذا ترقّى انقطع، وهكذا... حتى إذا انقطعت العادة مرة ولم يأته ما يريد؛ لأنه لم يفهم عن الله ما يريد، انقلب ساخطاً؛ لأنه يرى أنه يدفع الثمن، وينتظر أن يُوفّى المقابل، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
إن حقيقة الذكر تعني أن كل خطوة وحركة وخَلجة موصولة بالله تعالى ولها ابتهالها الخاص، ومن هنا يصبح العبد الذاكر في معيّة الله، أي في حالة من، والاستحضار الواعي لعظمة الله وجلاله ورقابته له، فلا عجب أن كان لكل حال ذكره من هذا الوجه، فما أعظمه من دين فيه ذكر حتى لدخول الخلاء، بل في قمة الشهوة مما يكون بين الزوج وزوجته!
إذن الفقه الحقيقي للاستغفار أو ربط ذكر برزق عامة، إنما هو تذكرة الناسي، وإعانة المنغمس في دوامة الحياة، وربطه بالنبع الأصيل والغاية الكبرى، بمصدر كل خير ومالك كل أمر ومدبر كل رزق، فأولى أن تكون استعانته استعانة عبد نسي وفرّط في خِضَم الاشتغال بالمضمون على حساب المسؤول، فهو يستغفر ويدعو، ويتعلم في أثناء انتظار رزقه معاني هي خير له وأبقى من ذلك الرزق، يتعلم ألا يتعلق بواسطة أو وعد مخلوق مثله، فلا حول حقاً ولا قوة مطلقاً إلا بالله تعالى، يتعلم ألا يفرّط في أوراده، ويتعلم إتقان عبادته لا مجرد التخلص منها بأدائها جافة؛ لأنه ليس غير وجه الله يبقى وكل ما عداه هالك، يتعلم أن يُجمِل في طلب الرزق، ولا يحرص ولا يتلهف ولا يجزع، ولا يطلب ما في خزائن الله بمعصية الله، أو ذلّة لغيره، فهو يستغفر معتذراً لتفريطه في مفتاح قلبه، وتوجيهه ذات اليمين وذات الشمال، وما جعل الله لقلب المؤمن إلا قبلة واحدة هي وجهه الكريم، إذا حاد عنها كان نصيبه معيشة ضنكاً، ولو كان له مال قارون.
• ولا تمنن تستكثر:
"دعوت ولم يستجب لي"، "فعلت ولم يعطني"، "التزمت ولم يرزقني"...
الحقيقة المرادفة لحقيقة أننا خُلقنا لعبادة الله تعالى، هي أننا نعبده سبحانه ونطيعه ليس ليعطينا أو "يدفع" لنا مقابلاً، فعطاؤه لم ولن يكون أبداً مقابلاً لعبادتنا، وإلا لما استحققنا شيئاً على الحقيقة، فأيّنا يزعم –مثل قارون- أن ما فيه من فضل ونعمة من عند نفسه ؟ وما هو المقابل الذي قدمناه لله تعالى منذ أن كنا نُطَفاً في الأرحام لا نعلم شيئاً، حتى خروجنا عالة لا حول لنا ولا قوة؟ أين المقابل الذي دفعناه لرزقنا في تلك الفترة، بل نحن عاجزون حتى عن ردّ فضل وَالدِينا المخلوقين مثلنا، أوَلمّا اشتدت سواعدنا نسينا أصلنا، وانقلبنا نعدّ على الله طاعات يسيرة تكاد تعظم في قلوبنا -وإن لم نجهر بذلك- كأنها في ثقل جبل أُحُد!
أوَلمّا اشتدت سواعدنا نسينا أصلنا، وانقلبنا نعدّ على الله طاعات يسيرة تكاد تعظم في قلوبنا -وإن لم نجهر بذلك- كأنها في ثقل جبل أُحُد!
ومن يستشهد بقصة الثلاثة الذين أغلقت صخرة عليهم الغار، فدعا كل منهم بعمل صالح، فاتهم أنهم إنما توسلوا بالإخلاص لوجه الله تعالى في تلك الخبيئات، وليس بصورها أو عددها: "اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ، أَنِّي فَعَلْتُ هَذَا خَشْيَةً مِنْكَ، وَابْتِغَاءَ مَا عِنْدَكَ، فَأَفْرِجْ عَنَّا".
وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، في كتابه "طريق الهجرتين": "إن الله إذا أراد بعبد خيراً سَلَبه رؤية أعماله الحسنة من قلبه، والإخبار بها من لسانه، وشغله برؤية ذنبه، فلا يزال نُصْب عينيه حتى يدخل الجنة، فإن ما تُقِبل من الأعمال رُفع من القلب رؤيته، ومن اللسان ذكره، وقال بعض السلف: إن العبد ليعمل الخطيئة فيدخل بها الجنة، ويعمل الحسنة فيدخل بها النار، قالوا: كيف؟ قال: يعمل الخطيئة فلا تزال نصب عينيه، إذا ذكرها ندم واستقال وتضرّع إلى الله، وبادر إلى محوها، وانكسر وذلّ لربه، وزال عنه عُجبه وكِبره، ويعمل الحسنة فلا تزال نُصْب عينيه يراها ويمنّ بها ويَعتَد بها، ويتكبر بها حتى يدخل النار" ا.هـ