روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها".
وقال السيوطي حول هذا الحديث: اتفق الحفّاظ على تصحيحه.
واختلف العلماء والمفسرون في تحديد المائة المقصودة في الحديث، هل هي المائة التي تبدأ بميلاد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، أم التي تبدأ ببعثته، أم بهجرته، أم بموته.
قال المناوي في فتح القدير: "(كل مائة سنة) يُحتمل من المولد النبوي أو البعثة أو الهجرة أو الوفاة".
وحدد بعضهم أسماء بعض المجددين على رأس بعض المئات، فقالوا: إن مجدد المائة الأولى هو الخليفة عمر بن عبد العزيز، وإن مجدد المائة الثانية هو الإمام الشافعي.
وللإمام جلال الدين السيوطي قصيدة في التجديد والمجددين، يقول في بدايتها:
الْحَمْد لِلَّهِ الْعَظِيم الْمِنَّةِ
الْمَانِح الْفَضْل لِأَهْلِ السُّنَّةِ
ثمَّ الصَّلَاة وَالسَّلَام نَلْتَمِسْ
عَلَى نَبِيّ دِينه لَا يَنْدَرِسْ
لَقَدْ أَتَى فِي خَبَر مُشْتَهِرِ
رَوَاهُ كُلُّ حَافِظٍ مُعْتَبر
بِأَنَّهُ فِي رَأْس كُلّ مِائَة
يَبْعَث رَبّنَا لِهَذِي الْأُمَّة
مَنًّا عَلَيْهَا عَالِمًا يُجَدِّدُ
دِين الْهُدَى لأنَّهُ مُجْتَهِدُ
ثم يشرع في ذكر أسماء المجددين فيقول:
فَكَانَ عِنْد الْمِائَة الْأُولَى عُمَرْ
خَلِيفَة الْعَدْل بإِجْمَاعٍ وَقَرْ
وَالشَّافِعِيّ كَانَ عِنْد الثَّانِيَه
لمَا لَهُ مِنْ الْعُلُوم السَّامِيَه
وقد ذكر الإمام أبا حامد الغزالي كمجدد في المائة الخامسة فقال:
وَالْخَامِس الْحَبْر هُوَ الْغَزَالِي
وَعَدّهُ مَا فِيهِ مِنْ جِدَالِ
وذكر بعضهم أن الإمام أبا حامد الغزالي قد قال عن نفسه أنه المجدد للمائة التي عاش فيها، وحق له ذلك فقد كان مجدداً كبيراً، جمع بين علم الكتاب والسنة والفلسفة والكلام والتصوف.
ولقد قال مثل ذلك الإمام السيوطي في قصيدته هذه، فقد قال عندما وصل إلى المائة الأخيرة التي عاش فيها:
وَهَذِهِ تَاسِعَة الْمِئِين قَدْ
أتَتْ وَلَا يُخْلَف مَا الْهَادِي وَعَدَ
وَقَدْ رَجَوْتُ أَنَّنِي الْمُجَدِّدُ
فِيهَا، فَفَضْلُ اللَّه لَيْسَ يُجْحَدُ
وتحدث الإمام السيوطي عن وصف المجدد في قوله:
يُشَار بِالْعِلْمِ إِلَى مَقَامهِ
وَيَنْصُر السُّنَّة فِي كَلَامهِ
وَأَنْ يَكُون جَامِعًا لِكُلِّ فَنّ
وَأَنْ يَعُمّ عِلْمُه أَهْلَ الزَّمَنْ
ثم ذكر ترجيحه لكون المجدد فردا فقال:
وَكَوْنه فَرْدًا هُوَ الْمَشْهُورُ
قَدْ نَطَقَ الْحَدِيث وَالْجُمْهُورُ
مع أن الحديث لم ينطق بذلك، وإنما الذي ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم ( من يجدد لها دينها )، و(من) اسم موصول يشار به للفرد وللجماعة.
بل إن من أحسن ما قيل في شرح هذا الحديث أن المجدد الذي يبعثه الله على رأس كل مائة سنة ليس شرطاً أن يكون فرداً، وإنما من الوارد أن يكون جماعة، أو مجموعة من الأفراد كلٌّ في مجاله ومكانه.
من أحسن ما قيل في شرح هذا الحديث أن المجدد الذي يبعثه الله على رأس كل مائة سنة ليس شرطاً أن يكون فرداً، وإنما من الوارد أن يكون جماعة، أو مجموعة من الأفراد كلٌّ في مجاله ومكانه
فمن الممكن أن يبعث الله على رأس مائة من المئات مجدداً في الفقه مع مجدد في الحديث مع مجدد في التفسير مع مجدد في الحكم والإمارة، ومن مجموع هؤلاء المجددين يكون التجديد على رأس المائة التي كانوا فيها.
بل من الممكن أن يتزامن أكثر من مجدد في فن واحد في مائة واحدة، كأن يوجد أكثر من مجدد في الفقه في عصر واحد، ومن مجموعهم يكون التجديد لمئتهم.
نصُّ الحديث لا ينفي ذلك ولا يقطع باستحالته، فهو لا يقطع بوجوب أن يكون المجدد فرداً.
قال ابن حجر في فتح الباري: "لا يلزم أن يكون في رأس كل مائة سنة واحد فقط.. فإن اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوع من أنواع الخير، ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص واحد".
وفي العصر الحديث تحدث الكثيرون عن مجدديه، وذهب كل واحد إلى إمامه أو زعيم حركته وطريقته وجماعته وحزبه ليقطع بكونه المجدد.
والتجديد ليس عملاً هيّنا يوصف به كل من هب ودب، وإنما التجديد هو قيادة الأمة وإمامة الأئمة، وهو عمل لم يكن في التاريخ الحديث إلا لقلائل يُعدون على أصابع اليد الواحدة.
التجديد ليس عملاً هيّنا يوصف به كل من هب ودب، وإنما التجديد هو قيادة الأمة وإمامة الأئمة، وهو عمل لم يكن في التاريخ الحديث إلا لقلائل يُعدون على أصابع اليد الواحدة
الدين الإسلامي أنزله الله عز وجل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم كاملاً تاماً كالمحجة البيضاء ليلها كنهارها، والنقص إنما جاء للدين بعد ذلك من سوء فهمه وتشويهه وترك العمل به، وبعد كل نقص وتشويه وترك، يأتي التجديد، ويأتي دور المجدد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "التجديد إنما يكون بعد الدروس، وذاك هو غربة الإسلام".
وقال المباركفوري في مرعاة المفاتيح: "المراد من تجديد الدين للأمة إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة، والأمر بمقتضاهما، وإماتة البدع والمحدثات، وكسر أهلها باللسان، أو تصنيف الكتب، أو التدريس، أو غير ذلك".
وقال المناوي في فيض القدير: "أمر دينها" أي ما اندرس من أحكام الشريعة، وما ذهب من معالم السنن، وخفي من العلوم الدينية الظاهرة والباطنة.
إذن، التجديد في الدين ليس إضافة له وزايدة فيه، ولكنه تجلية لما غمض منه وتفسير لما أبهم فيه .
ومن الممكن أن يكون التجديد بالإضافة والزيادة، ولكنها الإضافة في فهم الدين لما لم يكن مفهوماً قبل ذلك، والزيادة في الاستخلاص والاستنباط منه لما لم يكن مستخلصاً ولا مستنبطاً قبل ذلك.
التجديد يكون بزيادة الفهم للدين لا بزيادة الدين ، فالدين قد أتمه الله علي نبيه محمد صلى الله عليه وسلم حين قال له في نهاية بعثته: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} [المائدة:3].من الممكن أن يكون التجديد بالإضافة والزيادة، ولكنها الإضافة في فهم الدين لما لم يكن مفهوماً قبل ذلك، والزيادة في الاستخلاص والاستنباط منه لما لم يكن مستخلصاً ولا مستنبطاً قبل ذلك
وكما أوضحنا آنفاً، فإن التجديد يكون بعد سوء الفهم والتشويه وترك العمل، والأمة الإسلامية اليوم في أوج الهرج والمرج في فهم الدين والعمل به.
الأمة في أوج محنتها التاريخية في كافة الأبعاد والمناحي، أمة مهزومة أمام أعدائها هزيمة تاريخية، فالهزيمة والانبطاح والخنوع والاستسلام أمام الأعداء لم يحدث بهذه السطوة من قبل، ولا حتى في زمن التتار، فقد كانت بعض أطراف الأمة تنبض بالدين والعز وتعد العدة لدحر التتار، وهو ما كان على يد قطز وبيبرس وغيرهما.
وكذلك كان الحال في الحروب الصليبيبة، فإن صلاح الدين وعماد الدين زنكي ونور الدين محمود وغيرهم لم يعلنوا الاستسلام والخنوع لجموع الصليبيين، بل حاربوهم وهزموهم ودحروهم.
الأمة الإسلامية اليوم في أوج هزيمتها التاريخية، وفي أوج استسلامها وخنوعها وانكسارها، وليس ذلك إلا لبعدها عن دينها، علماً وفهماً وعملاً .حتى حركات التجديد الإسلامي التي ظهرت في العصر الحديث قد انتكست جميعها، وها هي الآن منكسرة لم تنتصر في معركة واحدة.
لا الوهابية نجحت في الحفاظ على دولتها بمنهجيتها الأصولية التي أسسها آباؤها الأوائل.
ولا الإخوان استطاعوا أن يقيموا دولتهم المنشودة في أي بقعة من بقاع الأرض، وما زالوا يخرجون من محنة لمحنة.
ولا الحركات الجهادية استطاعت أن تنتصر في معركة واحدة ويستمر انتصارها لنهاية المعركة.
ولا الحركة الدعوية استطاعت أن تقود الناس في ظل كل هذا الهرج والمرج الحادث، بل سقطت هذه الحركة وسقط دعاتها من عيون الناس لمواقفهم المضطربة والمتلونة.
وانقسمت كل الحركات والجماعات الإسلامية على نفسها، ثم انقسمت وانقسمت حتى تشرذم الجميع.
وتعادت الكثير من الحركات والجماعات الإسلامية إلى حد الاقتتال بينها في ساحات عدّة، وأصبح عداء بعض الإسلاميين لبعضهم ربما يكون أشدّ من عدائهم لأعداء الإسلام وأعداء مشروعه الحضاري.
وظهر في داخل بعض الإسلاميين فكر التكفير والتفجير، الذي يعتبر بحق أكبر انتكاسة حدثت للفكرة الإسلامية في تاريخها، فلم يشوه الإسلام بمثل ما شوه به من جراء فكر التكفير والتفجير.
وظهر كذلك في داخل جزء من الإسلاميين فكر التبديع والتفسيق والرمي بالخروج من الدين لأبسط الآراء وأهونها.
ورأينا فريقا من الإسلاميين ينصّب الحكام آلهة من دون الله، ويحرم الخروج عليهم، ومعارضتهم والنصح لهم، ويحرم من أجل ذلك كل تحزّب في الإسلام، ويرى أن أخطر ما يفسد الإسلام هو وجود هذه الجماعات وهذه الأحزاب.
في ظل كل ذلك يأتي دور المجدد، وهنا حقا يكون زمانه ووقته.
الأمة الإسلامية بحاجة إلى مدد سماوي كبير ينقذها من حالة الغرق التي تعيشها اليوم بين أمواج بحارها المتلاطمة من حولها .الأمة الإسلامية بحاجة لمجدد، وهي في انتظاره، ولا تعرف من أين سيأتي، ولا في أي مجال سيكون، وهل سيكون فردا أم جماعة. الذي تعرفه أنه قادم بنص حديث النبي، والذي تعرفه أن الدين سيجدد على يديه بنص حديث النبي، والذي تعرفه أن حال الدين وفهمه والعمل به لن يكون بعده كما هو قبله، والذي تعرفه كذلك أنه قد آن أوانه، فهي في أشد ضيقها وعنتها.