تحيّرتُ طويلا في اختيار العنوان المناسب لهذه المقالة التي فرض عليها مقتضى الوقت أن تنهج نهجَ الاختصار في التحليل، والوجازة في الاستدلال، ولا شك أن هذا الايجاز وذاك الاختصار سيؤثر سَلبًا ولا بُد على سياستنا في إدارة أفكارها وبلورة منطقها في الإقناع والإفهام.
ولذلك فإنّني ـوأمام هذا التحدي المنهجيـ أعتذر سلفًا لقرائنا الكرام عن اكتفائنا فيها بالإشارة إلى المفاصل دون التفاصيل، وبذكر العناوين دون غوص الدلافين، وأرجو من الله تعالى أن يحصل بأسطرها بعض النفع، وأن لا يحرمها من كفاءة المشاركة في النقاشات الفكرية الدائرة اليوم بين نخبنا الوطنية والإسلامية حول عدد من الإشكاليات المطروحة بينهم على طاولة الجدال، والتي مدار بعضها مرتبط بالاختلال في إدارة الموازنة بين اجتهادات الوصل أو الفصل بين ثنائيات (الدعوي والسياسي)، أو (التنظيم الحزبي والعمل الفردي)، أو عن أيهما أولى بالتقديم؛ هل هو التموقعُ في (بطانة السلاطين) أم التخندقُ مع (تيار الجماهير)،.. ونحوها من الثنائيات الحَدِّيَّة التي لا تزال تستهلك أوقاتنا، وتثير غبار الفتن بين صفوفنا.
وقبل الخوض في هذا التحليل، أجزم أنّ جزءا كبيرا من مآسي أمتنا، إنّما مردّه إلى ضعف عدد وافر من نخبنا المثقّفة، الذين لا يزالون يعيشون عطالة فكرية، وعجزا إدراكيا أمام هذه الثنائيات المتكررة، التي تظهر في كل مرحلة وعند كل منعرج بمظاهر جديدة أو متجددة.
من كدر التنظيم إلى فساد الأنظمة
فأحيانا قد تظهر هذه الأزمة عند بعض نُخبنا في عدم قدرتها على إدراك التوازنات التي كثيرا ما يفرضها علينا (العمل الإصلاحي) الذي يبتغي الاستدراك التربوي على حالة الغُثائية التي تعيشها الكثير من جماهيرنا أو يفرضها (العمل السياسي) الذي يبتغي مداراة حالات الفساد عند ساستنا المتلصصين من ذوي النفوذ ومن ذوي العرامة كما يحب أن يصفهم الجويني رحمه الله.
وقد كشفت الأيام عجز نخبنا أمام هذه الموازنة، حتى إنّ بعضهم مال إلى حالة من الانعزال والانكفاء بحجة التفرغ العلمي أو الثقافي، وربّما برّر بعضهم هذا الانكفاء بمبررات كثيرة، منها زعْمُ التَّخفف من ثقل مسؤوليات الأعمال التنظيمية والجماعية، في أي شكل من أشكالها حزبية أو غيرها، وربّما انخرط بعض هؤلاء في بداية أمره في شيء من تلك (التنظيمات الحركية)، ولكنّهم سرعان ما فتروا عنها ، وأعلنوا الانسحاب منها تحت مبرر هذا التفرغ المزعوم للقيام بقضايا أكبر يتوهمونها من أنفسهم، كبروزهم في مقام الرمزية لكلّ الناس في أوطانهم، وربّما تزايدَ غرور بعضهم فتعاظم وتكبّر، ثم زعَم أنّه ملك لكلّ الأمة، وأنّه لا يليق به حينئذ التحزّب أو التحيّز.
وفي حقيقة الأمر أنَّا وجدنا هؤلاء النّخب الهاربين من العمل التنظيمي، سرعان ما يرتمون في أحضان دوائر (الأنظمة الرسمية)، أو في دوائر (الكبراء والأعيان)، ثم يُمسي الواحد منهم مجرد أداة جامدة بلا مشروع و بلا رؤية، بل قد تجده أحيانا ينقاد بطريقة مهينة أمام (سلطان جائر)، أو أمام (تيار شعبوي جاهل)، وفي كثير من الأحيان يخذله هؤلاء وأولئك، فيجد المسكين نفسه في نهاية المطاف، طريدا أو شريدا بلا نصير أو معين، وربما وجدناه مقطّعَ الأوصال بالمناشير والسكاكين، كما حدث مؤخرا مع الكاتب الشهيد جمال خاشقجي رحمه الله، أو حدث قديما مع ابن المقفع الذي قطّعت أوصاله ورُمي في قدْرٍ يغلي.
وجدنا هؤلاء النّخب الهاربين من العمل التنظيمي، سرعان ما يرتمون في أحضان دوائر (الأنظمة الرسمية)، أو في دوائر (الكبراء والأعيان)، ثم يُمسي الواحد منهم مجرد أداة جامدة بلا مشروع و بلا رؤية، بل قد تجده أحيانا ينقاد بطريقة مهينة أمام (سلطان جائر)، أو أمام (تيار شعبوي جاهل)
همّ التربية أم هموم السياسة
وقد تظهر تلك الأزمة أحيانا أخرى، في صورة ذلك الجدل البارد الفارغ، الذي أبى أن ينقطع نسلُه، والذي تثيره بيننا إشكالية أيّهما أولى، هل هو (الاهتمام بالتربية أم الاهتمام بالسياسية)؟، وهي ثنائية مكْرورة، نبّه إلى جذورها القديمة شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله، حين أشار في كتابه "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" أنّ أهم مقصد جاءت به شريعة سيدنا موسى عليه السلام، إنّما هو (إقامة العدل)، الذي هو الاختصار المناسب لمقاصد العمل السياسي كله، وأنّ شريعة سيدنا عيسى عليه السلام، كان أهم مقصد فيها هو (إقامة الفضل)، الذي هو في معنى بلوغ (مرتبة الاحسان)، الذي يصلح لفظُه اختصارا مناسبا لكل معاني العمل التربوي والدعوي، ثم جزم رحمه الله، أنّ شِرعَة الاسلام، إنّما قامت على الفهم الشامل، الجامع بين معاني العدل والاحسان، وبين معاني التربية والسياسة معا.
قال رحمه الله: إنّ ((موسى عليه السلام جاء بالعدل، وعيسى عليه السلام جاء بتكميلها بالفضل، وهو صلى الله عليه وسلم قد جمع في شريعته بين العدل والفضل)).
وهذا المعنى الذي أشار إليه ابن تيمية ذكره مِنْ قبله بقرون طويلة الإمام الطبري، فقال عند تفسيره لقوله تعالى (ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون) إنّ الربّاني هو المثقف أو الدارس (الجامعُ إلى العلم والفقه البصرَ بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية وما يصلحهم في دينهم ودنياهم).
فكأنّه رحمه الله، قد انتبه أنّ لفظ (الرّبّاني) في هذه الآية، إمّا أن يكون راجعا إلى معنى الانتساب إلى الرّب سبحانه بالانقياد له والاستسلام، وإمّا أن يكون راجعا إلى الانتساب إلى معنى القائد والرّبّان.
ففي المعنى الأول؛ يكون الرّبّاني، هو المتعلم أو الدارس المهتم بتربية الخلق، والخلفية عن الرّبّ سبحانه وتعالى، في توجيه الخلق والشفقة عليهم، وفي المعنى الثاني؛ يكون الرّبّاني، هو المثقف أو الدارس المتشبه برّبّان السفينة، في قيادة تيار الجماهير، ومداراة أمواج السلاطين.
فالنخب الواعية اليوم، هي فقط تلك النخب التي تدرك شمول هذا المعنى فهمًا وتنظيرا، وتتحركُ مع غيرها لتنفيذه في الواقع تطبيقا وتنزيلا.
ميدان القول غير ميدان الجهاد
وفي أحايين أخرى قد تظهر هذه الأزمة في عجز بعض مثقفينا الذين ربّما رُزقوا القدرة على (رؤيةَ الحق) ولكنّهم لم يرزقوا (اتباعَه) والسيرَ على منهاجه، فيقع عندهم انفصام حادٌّ وشديدٌ بين (المنطق التنظيري) و(المنطق العملي)، فيقع الخلل الذي كنا نخشاه حين نلهج بالدعاء قائلين (اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه..) .
وأزعم أنّ (اتباع الحق) اليوم، إنّما يبدأ بالانخراط في مشاريع الاصلاح، وينتهي بالثبات على الحق، وبتحمّل تبعات المواقف وضريبتها، وليس هو الاكتفاء فقط بحركات القلم أو (اللسان)، أو الاكتفاء بدعاوى (الفهم والفَقاهة) أو دعاوى (التجديد والمراجعات) التي تزعمها اليوم بعض النخب المنظّرة القاعدة عن الحركة، وهي مزاعم فارغة فإنّ التجديد عمل جاد لا يستطيعه إلاّ المنبعثون، وإنّ المراجعات حمل كبير لا يقدر عليه إلاّ الحركيون، فغير المنبعثين وغير الحركيين لن يطمعوا بشرف ذلك.
إنّ (اتباع الحق) اليوم، إنّما يبدأ بالانخراط في مشاريع الاصلاح، وينتهي بالثبات على الحق، وبتحمّل تبعات المواقف وضريبتها، وليس هو الاكتفاء فقط بحركات القلم أو (اللسان)، أو الاكتفاء بدعاوى (الفهم والفَقاهة) أو دعاوى (التجديد والمراجعات)
ومنذ زمن قديم، رجّح الامام الطبري رحمه الله أنّ أولى الأقوال بالصواب في تفسير قوله تعالى (( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)) إنّما هو قول مَنْ قال؛ إنّ الطائفة النافرة هي الطائفة المتفهقة، وليست هي تلك الطائفة القاعدة، وقد عللوا ذلك بما ستشاهده هذه الطائفة وبما ستعاينه أثناء خروجها من رؤية سنن الله في الآفاق وفي الأنفس.
وبمثل هذا القول نطق التابعي الجليل الحسن البصري رضي الله عنه فقال: ((ليتفقه الذين خرجوا بما يُريهم الله من الظهور على المشركين والنصرة وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم)).
وقد اقتنص الاستاذ سيد قطب رحمه الله كل هذه المعاني فقال في "ظلاله" الممدودة بمداده ودمائه:
((والتجارب تجزم بأن الذين لا يندمجون في الحركة بهذا الدين لا يفقهونه مهما تفرغوا لدراسته في الكتب دراسة باردة وأن اللمحات الكاشفة في هذا الدين إنما تتجلى للمتحركين به لتقريره في حياة الناس ، ولا تتجلى للمستغرقين في الكتب العاكفين على الأوراق))
ثم أضاف جازما: ((إن هذا الدين منهج حركي لا يفقهه إلا من يتحرك به، فالذين يخرجون للجهاد به هم أولى الناس بفقهه بما يتكشف لهم من أسراره ومعانيه وبما يتجلى لهم من آياته وتطبيقاته العملية في أثناء الحركة به)).
ثم ختم رحمه الله بقوله: ((إن فقه هذا الدين لا ينبثق إلا في أرض الحركة، ولا يؤخذ عن فقيه قاعد حيث تجب الحركة))
وهذا المعنى الذي أطلْنا نفَسَنا في بيانه، هو معنى واضح، ولكن شَغَب المجادلين قد استطاع اليوم أن يخفيَه عن وعي أجيالنا الدعوية الجديدة، حتى أصبح معنىً خافيا وغريبا، بعد أنْ كان جليا وظاهرا عند سلفنا يرحمهم الله، فقد روي أنّ سفيان بن عُيينة قال لعبد الله ابن المبارك: ((إذا رأيت الناس قد اختلفوا، فعليك بالمجاهدين وأهل الثغور، فإن الله تعالى يقول "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا"))
ورحم الله الإمام الشهيد حسن البنا حين قال في رسائله: ((إنّ ميدان القول غير ميدان الخيال، وميدان العمل غير ميدان القول، وميدان الجهاد غير ميدان العمل، وميدان الجهاد الحقّ غير ميدان الجهاد الخاطئ. قد يسهل علي كثيرين أن يتخيلوا، ولكن ليس كل خيال يدور بالبال يُستطاع تصويره أقوالا باللسان، وإنّ كثيرين يستطيعون أن يقولوا ولكن قليلاً من هذا الكثير يثبت عند العمل، وكثير من هذا القليل يستطيع أن يعمل، ولكنّ قليلا منهم يقدر على حمل أعباء الجهاد الشاق والعمل المضني))
لا للقاعدين ولا للرابضين والرابضات
وأزعم في هذا الصدد أنّ "الرويبضة" الذي أخبرنا النّبي صلى الله عليه وسلم، عن تصدُّره للمواقع القيادية في آخر الزمن، وعن شيء من تفلسفه في قضايا الشأن العام، إنّما هو ذاك النوع من المثقفين القاعدين الناقدين الذين ينخدع الناس بكلامهم، وليس هو ذاك الرجل العامي أو الجاهل المتطفل على القول، كما قد يتصور ذلك كثير من الناس، والله تعالى أعلم بالصواب.
ودليلي في هذا الزعم أن حديث الباب الذي جاء فيه: ((سيَأتي علَى النَّاسِ سنواتٌ خدَّاعاتُ يصدَّقُ فيها الكاذِبُ ويُكَذَّبُ فيها الصَّادِقُ ويُؤتَمنُ فيها الخائنُ ويُخوَّنُ فيها الأمينُ وينطِقُ فيها الرُّوَيْبضةُ قيلَ وما الرُّوَيْبضةُ قالَ الرَّجلُ التَّافِهُ في أمرِ العامَّةِ)
يشير سياقه إشارةً بيِّنةً إلى اقتدار هذا "الرويبضة" على النُّطق والكلام في الشأن العام، فهو ليس بالعيي ولكنّه الخليَّ الفارغ من الشجو والمعاناة، وكلماته إنّما هي فرعٌ عن تخيلاته وليست هي ثمرةً لحركته وانبعاثه، بل هو لا يزال رابضا في مكانه، ومتكئا على أريكته، لم يرتق وعيه بعد إلى إدراك أهمية (المنهج الحركي) في الإصلاح.
وقد ورد التنديد بمثل هؤلاء التافهين في أحاديث كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه)،
ومنها قوله عليه السلام: (لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه).
فالرويبضة بهذا المعنى؛ هو كلّ كليل و كلّ عاجز، قد اختار أن يجلس رابضا في بيته ويتكأ على أريكته لينتقد الجهود المباركة للمنهجية الحركية، التي تبغي الإصلاح والاستدراك، فهو أشبه في عجزه بذلك الرجل المضروب مثَلاً في القران الكريم في قوله تعالى ((ضرب اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).
فالرويبضة بهذا المعنى؛ هو كلّ كليل و كلّ عاجز، قد اختار أن يجلس رابضا في بيته ويتكأ على أريكته لينتقد الجهود المباركة للمنهجية الحركية، التي تبغي الإصلاح والاستدراك
الانبعاث أمارة الصالح والإصلاح
أخرج أبو داوود في كتاب الكنى من سننه، من طريق عائشة رضي الله عنها، أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مرّ برجل يُقال له (المضطجع)، فكره اسمَه، فسماه (المنبعث)، فأصبح بعد ذلك يُدعى بالمنبعث الثقفي رضي الله عنه.
ونحن قبل أن نتخطى هذه الحادثة الرمزية، لا بد من القول إنّ الكثير من الإشارات القرآنية والحديثية تدلنا على أنّ الباعث على (الحركيّة) إنما هو الإيمان الصريح والوعي الصحيح ، وأنّ القعود والركون أمارتا التفاهة والفهاهة، إنْ لم نقل أمارتي النفاق والخيانة، كما دل على ذلك قوله تعالى في شأن المنافقين المتخلّفين عن الخروج مع رسول الله تعالى ((ولكن كره الله انبعاثهم فثبّطهم، وقيل اقعدوا مع القاعدين)).
ومن عجيب أسرار القرآن الكريم، أنّ سورتين كريمتين منه، متجاورتين في المصحف الشريف، ومتقاربتين في زمن النزول، قد ابتدأت كل واحدة منهما بتنبيه المضجعين والقاعدين إلى ضرورة الانبعاث والقيام، وهما (يا أيّها المزمّل) و (يا أيّها المدثر)، ففي الأولى حضٌّ على (قيام الليل) والتسبيح فيه بالأذكار الصالحة، وفي الثانية حضٌّ على (قيام النهار) والسباحة فيه بالأعمال الصالحة.
ومن سنن الله تعالى الكونية في استخلاف الإنسان، أنّه تعالى بعث إليه الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، ويبعث في كل حين المصلحين والمجددين، قال تعالى (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا)، وقال أيضا (إِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ )، وفي الحديث (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)، فكلّ من قعد عن العمل الحركي فهو محروم من كرامة البعث والانبعاث.
اقرأ وربك الأكرم
وفي ختام هذا المقال يحسن بنا في نهايته، الإشارة إلى بعض معاني لفظ (الكرامة) المقصودة في هذه الآية، التي جعلناها ترجمة وعنوانا لهذه الفقرة الختامية، والتي أزعم فيها أنّ التكريم الموعود به هنا، والذي هو ثمرة القراءة والمثاقفة، إنّما هو القدرة على إنجاز الأفكار والتحرك بها في أرض الواقع.
وقديما تسرع العلامة علال الفاسي رحمه الله حين سخر من مدرك التابعي الجليل عكرمة لمعنى التكريم الوارد في قوله تعالى (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر..)) فقال عن نفسه في كتابه "مقاصد الشريعة ومكارمها" ما نصه:
(( قرأتُ وأنا صغير ما ينقله المفسرون عن عكرمة في تفسير قوله تعالى "ولقد كرمنا بني آدم" جعلنا لهم أصابع يأكلون بها، وكنت تحت تأثير استضعاف المفسرين له أضحك على عكرمة، واعتبره بعيدا عن إدراك المعنى القرآني، ولكنني بعد ذلك منذ أخذت أتدبر القرآن، أدركت ما في تفسير عكرمة من العمق، وما في انتقاد منتقديه من قلة الفهم، إنّ عكرمة لا يعني أن الله خلق لنا أصابع فيجب أن نأكل بها ولا نستعمل غيرها من الأدوات، ولكنه يعني أنّ الله ميّز الانسان عن غيره من الحيونات..)).
وأزعم أنا أنّ علال الفاسي رحمه الله بقوله هذا كأنه لم يدرك بعد تمام المعنى الذي قصد عكرمة رضي الله عنه ، فهو يقصد أن التكريم الانساني يتجلى في قدرة الانسان على التناول والتنقل والحركة، وهو نفس المعنى الذي فسر به عطاء رضي الله عنه الآية فقال: (كرّمهم بتعديل القامة وامتدادها) فنلحظ هنا أنّ كلا من الإمامين التابعيين ظهر لهما التكريم في معنى الاقتدار على الحركة، وقد فطن الطبري لهذا فقال: ((وهذه الكرامة يدخل فيها خلقهم على هذه الهيئة في امتداد القامة وحسن الصورة، وحملهم في البر والبحر مما لا يصح لحيوان سوى بني آدم أن يكون يتحمل بإرادته وقصده وتدبيره))
فحركية الانسان وقدرته على التحرك والانبعاث هي من أجلى نعم التكريم الإلهي التي تستوجب شكره العملي بالتحرك السديد بالعمل الصالح، ولأجل هذا ثبت في أحاديث كثيرة أن المسلم مطالب بالتصدق كل يوم شكرا لله تعالى على هذه النعمة ومثال ذلك حديث ((يصبح على كل سُلامى من أحدكم صدقة كلَّ يوم تطلع فيه الشمس) والسُّلامى هي المفاصل، وقد اعتبر ابن حجر في "الفتح" أن هذه الصدقات إنّما (شرعت بسبب عتق المفاصل)، وجاء في روايات قوله عليه السلام (في الانسان ستون وثلاثمائة مفصل فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منها صدقة)) وقال الصحابة حين سمعوا ذلك ((ومن يطيق ذلك يا نبي الله؟..)) فجاء جوابه صلى الله عليه وسلم شاملا لكل مناحي الحركة ، ومنسجما مع معنى شمول الإسلام إذ قال لهم ـ كما في رواية مسلم ـ : ((خلق الله كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل، فمن كبّر الله، وحمِد الله، وهلّل الله، وسبّح الله، واستغفر الله، وعزل حجرا عن طريق الناس، أو شوكةً، أو عظمًا عن طريق الناس، وأمر بمعروف، أو نهى عن منكر، عددَ تلك الستين والثلاثمائة السلامى فإنه يمشي يومئذ وقد زحزح نفسه النار))
فانظر كيف جمعت روايات هذا الحديث الكثيرة في سياق واحد بين العمل الخير والعمل التربوي والعمل السياسي وغيرها من الأعمال التي لا ينجزها إلاّ العاملون الصادقون من أهل الوعي الذين يدركون أهمية العمل الجماعي والانتماء الحركي.
وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- حركة البناء الوطني الجزائرية