حينما يكون هناك صراع ما بين طرفين، فإن الانتصار لا يحسم فقط بالقوة الجسدية أو العتاد العسكري، بل بكيفية إدارة المعركة، والتحكم في ظروفها، وتسيير مجرياتها وفق ما يرغبه أحد هذين الطرفين.
والأمر أشبه ما يكون باثنين في لعبة شطرنج، يقوم أحدهما ذو الرؤية والهدف، بتحريك أحد جنوده، أو أي عنصر لديه، ليوهم الطرف الآخر بأنه ينوي أمراً ما، فيقع ذلك في الفخ، ثم تبدأ عناصر الطرف الثاني بالتهاوي تباعاً، حتى يخسر صراعه ويفوز ذاك بحيلته وخطته.
من الأبجديات المعلومة في أي صراع ونزاع، أن هناك قضية رئيسة يتمحور حولها الصراع، وتدور في فلكها قضايا فرعية لا تنفصل عنها، بل هي ملازمة لها طالما أن القضية الأصلية موجودة ومستمرة. فإن تم حل الأمر الرئيس حلت معه كافة المشاكل والظواهر المختلفة، أو سهل حلها لزوال المصدر الرئيس لها.
من المعلوم أن هناك قضية رئيسة يتمحور حولها الصراع، وتدور في فلكها قضايا فرعية لا تنفصل عنها، بل هي ملازمة لها طالما أن القضية الأصلية موجودة ومستمرة. فإن تم حل الأمر الرئيس حلت معه كافة المشاكل والظواهر المختلفة، أو سهل حلها لزوال المصدر الرئيس لها
وتحديد هذه القضية وتمييزها عن غيرها لا يمكن أن يصدر من شخص واحد، أو بضعة أشخاص، وإنما يحتاج إلى توافق عليه من قبل أهل الاختصاص، الذين يقرؤون تفاصيل المشهد بوحدة موضوعية، ولا ينساقون خلف تفصيل هنا وهناك.
وهذا الأمر بحد ذاته يتطلب عملية معقدة، لأنه يقدم إجابات واضحة لأسئلة عديدة منها:
1- ما القضية المركزية التي يدور عليها الصراع؟ وهل هي قابلة للتغيير أو الاستبدال؟
2- ما هي السبل الكفيلة بتحقيق الغايات المرجوة من هذه القضية؟ وهل هذه السبل قابلة للتطوير أو التغيير، أم أنها ثاتبة لا تتغير؟
3- كيف نتعامل مع القضايا الأخرى التي لا تعتبر قضايا مركزية، هل نتفاعل معها، ونولي لها الاهتمام أم نسكت عنها ونتجاهلها؟ وما معيار ذلك؟
4- هل يمكن أن تتحول بعض القضايا الفرعية إلى قضايا مركزية إذا كانت ذات أهمية؟
هذه الأسئلة وغيرها، يمكن أن نطبقها على أي صراع تعيشه أمتنا، وفي ضوئها ينبغي رسم سياستنا وخططنا، وإلا أصبح عملنا تبعاً للهوى وبات أكثر اندفاعية، الأمر الذي يوقع في التناقض والاضطراب.
نماذج من العهد النبوي
الناظر في السيرة النبوية ومراحل إقامة الدولة يجد أن القضية المركزية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم تمثلت بتمكين دين الله وإقامة شعائره ، وكل التضحيات كانت لأجل ذلك، بدءاً من تمكينه في النفوس، ثم إقامة دولته والحفاظ عليها، ونشر الإسلام بين الناس.وقد وعد الله عباده بتحقيق ذلك، فقال عز وجل: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} [النور:55]
وأذكر ثلاث حالات من السيرة النبوية تؤكد على مركزية هذا الأمر.
1- حينما عرضت قريش على النبي صلى الله عليه وسلم المال أو السيادة، حيث جاءه عتبة بن ربيعة، وقال له: "يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا، حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه" (السيرة النبوية – ابن هشام).
لكن النبي صلى الله عليه وسلم رفض قبول ذلك، وقرأ عليه آيات من القرآن الكريم، ليبين أنه لا يطمح إلى أمر دنيوي وأن قضيته متمثلة بالدعوة إلى دين الله وتمكينه في الأرض. ولو قبل بذلك -حاشاه عليه الصلاة والسلام- لضاعت مصداقية رسالته وفقدت بوصلتها.
2- في العهد المكي، ورغم ما تعرّض له المسلمون من أذى وصور كثيرة من العذاب، إلا أن تمكين الدين في النفوس، كان هو القضية المركزية، حتى أن القرآن كان يعالج أمور العقيدة والتوحيد وترسيخ الإيمان في نفوسهم، وكان عليه الصلاة يدعوهم إلى الصبر وعدم الانجرار خلف ما يريده المشركون بحرف بوصلة المسلمين، وإشغالهم في حرب يهلك فيها المسلمون في النهاية. وكان التعامل النبوي بالبحث عن مكان آخر لإقامة الدولة، لتحقيق الهدف الرئيس، حتى لو كان خارج مكة، المهم أن تتحقق غايتهم.
3- في صلح الحديبية، كان الهدف الأسمى هو كسب الاعتراف بالدولة المسلمة وفتح المجال للمسلمين بالتحالف مع غيرهم من القبائل، مما يسهم في تحقيق الهدف الرئيس بتمكين الإسلام ونشره بين الناس، أما شروط الصلح، وأداء العمرة فهي أمور تدور في فلك القضية المركزية. ولهذا لم يعط النبي صلى الله عليه وسلم لشروط قريش وعلى رأسها تأجيل أداء العمرة للعام المقبل أكبر من حجمها لأنها قضية جزئية مقارنة بالأمر الرئيس.
فلسطين نموذجاً.. مثال تطبيقي
حينما نتناول المشهد الفلسطيني، فإننا يجب أن نعود إلى القضية من بدايتها، وهي احتلال أرض، وطرد سكانها منها وإحلال اليهود مكانهم، واغتصاب المقدسات. فالقضية المركزية تتمحور حول تحرير فلسطين، وطرد المحتل منها، وينبغي أن تدور جميع أعمالنا في فلك هذه القضية، وعدم الانحراف عنها.
وتوجيه الجهود لجزء منها، واعتبار ذلك قضية مركزية، هو نسيان للأمر الرئيس المتمثل بقضية بلد محتل، وشعب مهجر ومقدسات مدنسة.
القضية المركزية في فلسطين تتمحور حول تحريرها، وطرد المحتل منها، وينبغي أن تدور جميع أعمالنا في فلك هذه القضية، وعدم الانحراف عنها
وهذه القضية كانت معلومة ليس للفلسطينيين فحسب، بل لكل مسلم وحر على هذه الأرض، أن دولة الاحتلال كيان غاصب، ينبغي إزالته بكافة السبل، ولهذا قدم الشعب الفلسطيني العديد من الشهداء على مدار عقود، في سبيل الوصول إلى الغاية الأسمى المتمثلة بالتحرير لكل فلسطين من نهرها إلى بحرها.
لكن انحراف البوصلة بدأ باتفاقية أوسلو حينما باتت قضية إقامة الدولة على أي جزء منها، في ظل وجود الاحتلال هي قضية مركزية، وهو فخ سعى إليه الاحتلال، للتخلص من مجابهة الفلسطينيين اليومية، وإشغالهم بأمور العيش المختلفة، الرواتب، الضرائب، الأمن، المحاكم ...الخ.
وهذه الأمور لا يمكن أن تنتهي طالما أن الاحتلال موجود، ولهذا هو نصب للفلسطينيين فخاً كبيراً، الذي وقعت فيه السلطة، حتى باتت الأولوية بعد ذلك، كيف يمكن التفاوض على مناطق (ج)، وما سبل إدارة مناطق (ب) في الضفة الغربية، وكيف أحصل ضرائبي، وأدخل أموالي، وأسمح لرجالاتي بالتنقل، وكيف نستأنف التفاوض من جديد، كل هذا على حساب الأمر الأهم والقضية الأساسية وهي قضية تحرير الوطن!!
ومن هنا بدأ مسلسل التنازلات الذي لا ينتهي، حتى وصلنا إلى مرحلة اعتبار السلطة لقطاع غزة إقليماً متمرداً، وخنقه وحصاره واجب وطني، وإجبار حماس والفصائل الأخرى على الخضوع قضية مركزية في سبيل إقامة الدولة الفلسطينية "المستقلة"!!
تذكروا مثال الشطرنج في البداية، نفس الأمر يحدث في هذا، يتخلى الملك عن جميع من حوله، ويضحي بهم، في سبيل بضعة خطوات يخطوها في هذا الاتجاه أو ذاك، فتتقزم القضية من الانتصار، إلى الحفاظ على الحياة، وإمكانية التنقل هنا وهناك، مع أن المصير معلوم، فلا حاجة مطلوبة منه عند انتهاء مهمته، المتمثلة بقتل كل من حوله وتخليه عنهم.
ولأن الاحتلال الصهيوني هو عدو خبيث، لا يجيد المواجهة بقدر ما يتقن فن المكائد والمؤامرات ، فإنه ورغم غيظه من غزة -التي هزمته مرات عديدة- فإنه يعود للعبته من خلال قضايا فرعية كلها ترتبط بوجوده، مثل مسألة الكهرباء، والرواتب، والحصار، وغيرها، ليجبر الفلسطينيين على التخلي عن قضيتهم المركزية، ويستبدلونها بأمور حياتية يومية!
نحن شعب محتل منذ عقود، ونقتل يومياً، إما برصاصه، أو بحصاره هو ومن يدور في فلكه! ولهذا ينبغي أن تدور كل أعمالنا في سبيل هذه القضية، فأي أمر نقوم به لا يخدم قضية تحرير فلسطين هو أمر بحاجة إلى مراجعة، لأن صاحبه أضاع بوصلة القضية المركزية هذا إن لم يكن فيه شبهة وخدمة للعدو!
وفي هذا الصدد، لا أستطيع إلا أن أسجل إعجابي بالوعي الذي تحلى به أهل غزة، الذي فهموا أبعاد اللعبة، أن كل المشاكل والأزمات تعود للاحتلال، فمعركتنا الرئيسة معه، وليست مع هذا أو ذاك، ولهذا كانت مسيرات العودة للتذكير بالقضية المركزية، فنحن شعب محتل منذ عقود، ونقتل يومياً، إما برصاصه، أو بحصاره هو ومن يدور في فلكه! ولهذا ينبغي أن تدور كل أعمالنا في سبيل هذه القضية، فأي أمر نقوم به لا يخدم قضية تحرير فلسطين هو أمر بحاجة إلى مراجعة،لأن صاحبه أضاع بوصلة القضية المركزية هذا إن لم يكن فيه شبهة وخدمة للعدو!
ختاماً.. لابد أن ندرك أن معاركنا مع أعدائنا تحتاج إلى فهم للمجريات وعدم الانجرار خلف ما يريدونه، فهم يهدفون إلى حرف بوصلتنا وإشغالنا في معارك جانبية وهامشية ، ولا أعني أنه علينا تجاهلها، لأن بعضها يكون ضرره فادحاً، لكن أن نتعامل مع هذه الأحداث وفق حجمها، دون نسيان لأبعاد القضية وأصلها.