عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: "النَّاسُ كإبلٍ مائةٍ لا تَكادُ تجدُ فيها راحِلةً" (صحيح ابن ماجه).
إنَّ قيمة الإنسان تقاس بمدى قدرته على حسن تَوظيف ما حَباه الله تعالى به من نعم، ومكانَته تتوقَّف على قدرته على التَّفكير النَّاضِج والإبداعِ المستمرِّ والتغيير للأفضل، وما ينطبق على الأفراد ينطبق كذلك على المجتمعات والدول والأمم ومن يحسن ذلك هو من يُشكِّل الرقمَ الصَّعب في المعادلة وحجر الزَّاوية الذي لا يتمُّ الحلُّ والعقد إلَّا في وجوده وبعد رأيِه ومشورته.
إن الرَّقم الصَّعب هذا إنَّما يظهر بعد اختيارٍ وتأهيل واختبار، وتنقيةٍ وتمحيص واصطفاء.
قال تعالى: "إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ {33} ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {34}" (سورة آل عمران).
عن واثِلَة بن الأسقَع رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "إنَّ اللَّهَ اصطفى مِن ولدِ إبراهيمَ إسماعيلَ، واصطَفى من ولدِ إسماعيلَ بَني كنانةَ، واصطَفى من بَني كنانةَ قُرَيْشًا، واصطفى من قُرَيْشٍ بَني هاشمٍ، واصطَفاني من بَني هاشمٍ" (صحيح الترمذي).
إن الرقم الصَّعب في البشريَّة هم الأنبياء الذين اصطَفاهم اللهُ تعالى وزكَّاهم وعصَمَهم من الزَّلَل والعصيان.
والرَّقم الصَّعب بين الأنبياء هم أُولو العَزْم من الرُّسل، الذين بالَغوا في الصَّبر، وما بدَّلوا تبديلًا.
وبين أُولي العَزْم من الرُّسل هو نبيُّنا محمد ﷺ بما له من مآثر ومناقب خصه الله تعالى بها عن سائر الرسل.
والرَّقم الصَّعب بعد الأنبياء والمرسلين هم تابعوهم، ومَناقِبُهم ومَحاسنهم أكثر من أن تُعدَّ أو تُحصى.
والرقم الصَّعب بين الصَّحابة هم العَشرة المبشَّرون بالجنة.
والرَّقم الصَّعب بين العشرة المبشَّرين بالجنَّة هو أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه وأرضاه.
وهكذا تتوالى الأرقامُ الصَّعبة مِن خِيار كلِّ فئةٍ، ومن خيار كل زمانٍ ومكان، إلى أن يرِثَ الله تعالى الأرضَ ومَن عليها.
يُروى أنَّه عندما حاصَر القائدُ المغوار خالدُ بن الوليد رضي الله عنه الحِيرةَ، طلَب من أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه مَددًا، فأمدَّه برجل واحدٍ هو القعقاع بن عمرو التَّميمي، وقال: "لن يهزم جيش فيه القعقاع" وقال: "لصوت القعقاع في الجيش خيرٌ من ألف رجل".
إن الرَّقم الصَّعبُ ليس مقصورًا على الرجال دون النِّساء، بل هناك من النساء من تُعتبر أرقامًا صَعبة، وقامات وقدوات لمثيلاتهنَّ إلى يوم القيامة.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "خطَّ رسولُ اللهِ ﷺ في الأرضِ خُطوطًا أربعةً قال : (أتدرونَ ما هذا)؟ قالوا: اللهُ ورسولُه أعلَمُ فقال رسولُ اللهِ ﷺ: "أفضَلُ نساءِ أهلِ الجنَّةِ خديجةُ بنتُ خويلدٍ وفاطمةُ بنتُ مُحمَّدٍ ومريمُ بنتُ عِمرانَ وآسيةُ بنتُ مُزاحِمٍ امرأةُ فِرعونَ" (صحيح ابن حبان).
وهناك من الأطفال مَن اعتُبروا أرقامًا صعبة يُقتدى بها كذلك، فهل أتاك نَبأ معاذ ومعوذ ابني عفراء؟! وقد شارَكا في غزوة بدرٍ وهما فوق سنِّ العاشرة بقليل، وكان هدفهما هدفًاً ساميًا وطَموحًا، ألَا وهو قَتْل فِرعون هذه الأمَّة (عمرو بن هشام)، وقد شرَّفهما اللهُ بذلك حين شدَّا عليه فضرباه ضربةَ رجلٍ واحد حتى خرَّ صريعًا!
إنَّ الأمثلة كثيرة، ومَن سار على الدَّرب وصَل، ومن اقتفى أثَر الأنبياءِ والصَّحابة والتابعين وتابعيهم لن يضِلَّ أبدًا، فهل ستعلنها صريحةً عالية مُدوية دون خوف أو تردُّد: "أنا لها"، وسأكون رقمًا جديدًا وامتدادًا لهذه السلسلة الطويلة من الأرقام الصعبة؟
هل ستتوجَّه إلى الله تعالى بقلبٍ خاشِع وعزيمة صادقة أن يوفِّقك لذلك؟
هل ستتوجَّه إلى النَّفس؛ فتهذِّبها وتستكمِل فضائلها؛ ليليق بها أن تكون حلقة قويَّة في هذه السِّلسلة؟
هل ستَقرأ عمَّن شكَّلوا أرقامًا صعبةً في كلِّ العصور وكلِّ المجالات؛ لتستقي مِن مَعِينهم؟
هل ستنفض عن نفسك غبارَ التراخي والسَّلبيَّة، واللامبالاة والتسويف؛ لتستحقَّ هذه المنزِلة؟
هل ستبتعد عن العوائق الدنيويَّة وتتخفَّف منها؛ لكيلا يَجذبك طينُ الأرض عن نور السَّماء؟
هل ستتجنَّب أصحابَ الهوى وأصحاب الهمَمِ الدونيَّة والمثبِّطين لتلحق بالرَّكب؟
هل ستفطن إلى ما يُحاكُ بك مِن أعداء الأمَّة وأعداءِ النَّجاح لكي تُعرض عن هذا الهدف النَّبيل؟
هل ستخالِط أصحابَ الهِمَم العالية لترفرِفُوا معًا في قمَّة هذه الأرقام الصعبة؟
هل ستحرِص على مصاحبة مَن تعول ومَن تقوم على تربيتهم ليلحَقوا معك بهذا القطار؟
هل سنُحافظ على ما نمتلِك من أرقامٍ صعبة؛ وذلك لكونهم غرضًا لسِهام عدونا فنفتديها بالأرواح؟
هل سنعكفُ على مناهجنا التربويَّة؛ فنعيد صياغتَها لتُخرج لنا أرقامًا صَعبة جديدة، تجدِّدُ للأمَّة شبابها، وترمِّم ما بلِيَ من مجدها وما طمسَ من معالمها، وتعيد لها كرامتَها وعزَّها؟
إنَّ التَّبعة كبيرة، والدور المنوط بنا تَنوء به الجبال، ولا يطيقُه إلَّا أصحاب النُّفوس الرَّاقية والهمَم العالية، الله أسأل أن يجعلنا وإياكم من أهلها.