من الفوارق التي لمستها واضحة بين أصحاب الشخصيات الراسخة أو القوية وأصحاب الشخصيات المذبذبة: حسّ المسؤولية وصدق النية.
كيف ذلك؟
تجد المذبذبين دائمي التخوُّف والتوجس من الشعور بالذنب أو الملامة (اللوم)، أو التقصير، أو الخطأ تجاه أنفسهم، ودائمي القلق بشأن ما سيقال عنهم، ويُظَن بهم، ويُنظَر إليهم من جهة الناس، وبالتالي، تطول ذبذبتهم في اتخاذ القرارات والمواقف، بما يؤذي ويضرّ مختلف الأطراف المعنيّة؛ لأنه مهما كانت الموازنات لا بدّ في النهاية من وقوع تقصير أو إيذاء شعور أو إثارة سخط أو غير ذلك من "السلبيات" التي لا يحب ولا يحتمل المذبذبون مواجهتها، والطريف أنه بعكس الحساسية والمراعاة الفائقة التي يُظهِرون بها أنفسهم للناس، غالبهم في داخلهم أنانيّة مستحكمة؛ لأن خوفهم الحقيقي لم يكن على شعور من حولهم، بل على شعورهم تجاه أنفسهم (بالذنب أو التقصير...إلخ)، وليس حرصاً على مصالح الغير بقدر الحرص على صورتهم "الإيجابية" أمام الناس، ومن ثم فقد تجد منهم من هو أبعد الناس عن الاعتذار للغير، أو الإقرار بخطأ، وأكثرهم تمسّحاً في التبريرات وأعذار النفس التي لا تنتهي، وأسرعهم استقبالاً للمديح والإشادات الجوفاء، وأدناهم تقبلاً لأي نقد أو توجيه يحمّلهم مسؤولية، أو يواجههم بخطئهم.
مهما كانت الموازنات لا بدّ في النهاية من وقوع تقصير أو إيذاء شعور أو إثارة سخط أو غير ذلك من "السلبيات" التي لا يحب ولا يحتمل المذبذبون مواجهتها
أما أصحاب الشخصية الراسخة والقوية، فينظرون في أي أمر، وعند أي قرار لمختلف الموازنات والعواقب والمصالح قدر طاقتهم، ثم يُقدِمون على ما صحّ عندهم -سواء بالفعل أو الترك، الاستمرار أو الإنهاء...- متحملين لقدر مسؤوليتهم في ذلك السياق -كاملة أو جزئية- ومتقبلين لإمكان صدور خطأ، أو وقوع تقصير منهم مهما بلغوا من الاحتراز والحرص؛ لأن تعاقب الخطأ والصواب من سنن الوجود وتكوينه ، فإن ظهر أن قرارهم أو موقفهم الصواب حمدوا الله الموفق، وإن ظهر أنه غير ذلك، أقرّوا واجتهدوا في الإصلاح ما أمكنهم، دون تشنّج للنفس يحجب رؤية وجه حق عند الغير، أو انبطاح لرؤى الغير يمنع اتباع وجه حق ظهر للنفس، وهم يقدّرون لمختلف الأطراف حقهم وشعورهم، مدركين في ذات الوقت أن رضا الناس جميعًا غاية لا تُطلَب، وأن كثرة اللائمين أو المادحين ليست معيار الصحة والصواب ، وأن العبرة بحقيقة ما يطّلع عليه الله وتعلمه من نفسك، لا بما يظهر للناس منهم، أو يتوهمه الناس فيهم.
وما أحسن المحاورة التي دارت بين فرعون وسيدنا موسى عليه السلام نموذجًا تطبيقيًا لذلك، لمّا حاول فرعون أن يشوِّه صورة سيدنا موسى على الملأ؛ ليضعف موقفه، باتهامه بالذنب وإظهاره بمظهر الجاحد للمعروف: {قَالَ أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ • وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ ٱلَّتِى فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ} [الشعراء: 18].
ردّ عليه سيدنا موسى بثبات: {فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ}، فأقرّ بالفعلة ولم يتملّص منها بتبرير ما، وإن كانت وقعت عن غير عمد، وقبل بعثه بالنبوة أو تنزيل شرع عليه، بل وردّ الملامة على فرعون؛ إذ تآمر مع رجاله على قتل سيدنا موسى سراً وغدرًا دون النظر في الحيثيات: {فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ}، ثم لم يمنعه سياق الحوار -بعد ردّ تهمة أو إقرار خطأ ما في موضع- من الإشادة والاعتزاز بفضل الله عليه في موضع تالٍ: {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ}، بما يدلل على أهليّته لتبليغ رسالة ربه، ويفصل الملفات التي حاول فرعون خلطها على الجمهور.
قارن ذلك الثبات في الموازين متدرجاً في ثلاثة مستويات، والعقلانية التحليلية للكل، وحسن التقدير لكل أمر في موضعه، قارن ذلك كله بما قد يصدر من متذبذب متخاذل عن مسؤوليته عن نفسه، مرتاعٍ على صورته أمام الناس، فلا توسط عنده ولا حسن تقدير للأمور، فإما أن ينفي عن نفسه الخطأ الذي يواجَه به بطفولية واستماتة كأنه اتهام له بأنه شيطان مريد، أو يفاخر بمحاسنه في غير محلها تبريرًا للخطأ أو التقصير، كأن بعض الحسن ينفي السوء مطلقاً، أو كأن بعض السوء مانعٌ من أي حسن، أو كأنهم ليسوا بشرًا كالبشر يجمعون الاثنين في آن!
ليس كل ظاهر معروف يَمُنّ عليك به أحد يجعله معروفاً حقاً، أو يجعلك في موضع امتنان حقيقة
ثم ماذا كان ردّ سيدنا موسى التالي على منّة فرعون عليه بالرحمة من القتل والتربية من الصغر؟ قال له : {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ}، ما أحسنه وأبلغه من رد! إذ ليس كل ظاهر معروف يَمُنّ عليك به أحد يجعله معروفاً حقاً، أو يجعلك في موضع امتنان حقيقة، خاصة في مثل سياق فرعون الذي تسبب في الأزمة بداية، بما اضطر أم موسى لإلقائه في اليم رضيعًا، ثم كان استحياء ذلك الرضيع برجاء من زوجة فرعون لا بتعطف من فرعون شخصيًا، فانظر كيف أنّ مِن الناس "متفرعنين" ينتهزون مثل تلك النهزات؛ ليحرجوا الغير بفضلهم ومعروفهم، بما يدفع ذلك المُتَفَضّل عليه للتغاضي عن حق، أو إعانة على باطل، تحرّجاً ممن أدى له معروفاً أو إساءة لتأويل "مكافأة" المعروف! ومثل هذا الخلط الفاحش والتلبيس البيّن لا يقع فيه إلا المذبذبون، وإلا فالفصل لازم بين الأمور التي لا يصح بينها اجتماع ولا يترتب عليها منطق ولا يلزم منها التزام.
لتكون قوياً كن مسؤولاً، ولتكون راسخاً كن مخلصاً، وسبيل ذلك بمعرفة ربك ودينك ونفسك، وسوى ذلك ما له من قرار، في الدنيا والآخرة معًا .