حملت سنة 2018 تصاعداً في أزمة المشروع الوطني الفلسطيني، وتدهوراً في مسار المصالحة، وفشلاً في مسار التسوية، ومزيداً من الضغوط الأمريكية لفرض التصورات الليكودية الصهيونية لحل القضية الفلسطينية. وحملت في الوقت نفسه صموداً للمقاومة، وإبداعاً في مسيرات العودة، وثباتاً للشعب على أرضه في وجه برامج التهويد والاستيطان.
لا يبدو أن سنة 2019 تحمل اختلافاً كثيراً عن سابقتها.. وفي ما يلي استشراف لعدد من المسارات المتعلقة بقضية فلسطين لهذه السنة:
أولاً: تفاقم أزمة المشروع الوطني الفلسطيني: عقَّدت التطورات الداخلية الفلسطينية في السنة الماضية من أزمة المشروع الوطني الفلسطيني المثقل أصلاً بأزماته، وهي أزمات مرشحة للتفاقم بشكل أكبر سنة 2019.
فبالإضافة إلى الأزمات المزمنة في القيادة وفي المؤسسات التمثيلية الفلسطينية (منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية،) وفي التنازع على الأولويات بين مساري التسوية والمقاومة؛ يظهر أن سلوك محمود عباس وقيادة فتح يميل إلى مزيد من التأزيم في الساحة الفلسطينية، من خلال محاولات فرض الهيمنة وتطويع قطاع غزة وحركة حماس؛ وذلك بعد أن تجاوزت هذه القيادة التوافقات السابقة مع باقي الفصائل الفلسطينية، فأصرت على عقد المجلس الوطني للمنظمة تحت الاحتلال في رام الله، وعلى استمرار العقوبات على القطاع، وقامت بحلِّ المجلس التشريعي بشكل غير دستوري ومتعسف. ويظهر أنه طالما ظلّ عباس على رأس المنظمة والسلطة وفتح، فإن مسار التأزيم سيستمر ويتصاعد. وسيتابع عباس محاولة الاستقواء ببيئة عربية ودولية مخاصمة أو معادية لتيارات "الإسلام السياسي" ولخط المقاومة.
طالما ظلّ عباس على رأس المنظمة والسلطة وفتح، فإن مسار التأزيم سيستمر ويتصاعد. وسيتابع عباس محاولة الاستقواء ببيئة عربية ودولية مخاصمة أو معادية لتيارات "الإسلام السياسي" ولخط المقاومة
ثانياً: لا أفق للمصالحة... ولا فرصة لانتخابات جديدة: السلوك التأزيمي لعباس وخصوصاً حلّ المجلس التشريعي، بخلاف اتفاق المصالحة الذي يدعو إلى تفعيله، وضع مزيداً من الزيت على نار الانقسام، وأدى إلى تراجع مسار بناء الثقة، وأوجد أجواء موبوءة، لا تسمح بعقد انتخابات حقيقية نزيهة وشفافة، وضرب الأسس التي يمكن أن تبنى عليها الشراكات الوطنية والتعددية وتداول السلطة تحت مظلة منظمة التحرير.
أما الانتخابات التي تمت الدعوة لها خلال ستة أشهر، فتكاد تكون فرص إقامتها معدومة؛ فليست قيادة فتح والسلطة جادة في إنفاذها، إذا ما توفر الحد الأدنى لإمكانية فوز حماس بها. كما أن الطرف الإسرائيلي نفسه يملك القدرة على تعطيل هذه الانتخابات في القدس وباقي الضفة الغربية؛ وهو أيضاً غير مستعد لقبول فوز جديد لحماس. ثمّ إن حماس وعدداً من الفصائل ستقاطعها، إذا لم تتوفر الضمانات الكاملة لبيئة صحية وحرة تسبق الانتخابات، مع ضمان نزاهة الانتخابات وشفافيتها، هذا مع المطالبة بتزامنها مع الانتخابات لرئاسة السلطة، وللمجلس الوطني الفلسطيني، وهو ما لم يدعُ إليه عباس.
الانتخابات التي تمت الدعوة لها خلال ستة أشهر، فتكاد تكون فرص إقامتها معدومة؛ فليست قيادة فتح والسلطة جادة في إنفاذها، إذا ما توفر الحد الأدنى لإمكانية فوز حماس بها
ثالثاً: مزيد من العزلة الداخلية لحركة فتح: يظهر أن إصرار عباس وحركة فتح على متابعة الانفراد بالهيمنة على الساحة الفلسطينية، وتطبيق سياسات مخالفة للتوافقات الفلسطينية، وحتى للرأي العام الفلسطيني، بما في ذلك العقوبات على قطاع غزة، ومتابعة التنسيق الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي وغيرها؛ سيتسبب بمزيد من العزلة لحركة فتح، خصوصاً بعد أن قاطعت الفصائل والقوى الرئيسية الأخرى في منظمة التحرير الاجتماع الأخير للمجلس المركزي الفلسطيني، بالإضافة إلى عدم مشاركة حماس والجهاد الإسلامي فيه أصلاً. ومع إصرار فتح على السلوك نفسه بعد ذلك بحل "التشريعي"، فإن "العزف المنفرد" سيستمر في سنة 2019، مع اتساع دائرة المُنفَضِّين عنه.
رابعاً: استمرار العمل المقاوم... مع تصاعد التحديات التي تواجهه: مع استمرار الاحتلال والحصار، وانسداد آفاق التسوية، وفشل السلطة سياسياً واقتصادياً؛ فإن البيئة الخصبة للمقاومة ستظل حاضرة، وستتابع إبداعاتها بأشكال مختلفة... ولا يُستبعد أن تتشكل في رحم 2019 بيئة انتفاضة جديدة. كما أن استمرار محاولات تطويع قطاع غزة ونزع سلاح المقاومة، ينذر بتفجير الوضع في غزة، وبحربٍ جديدة.
ومع وجود بيئة عربية ودولية معادية (أو على الأقل غير داعمة) للمقاومة، فإن الصعوبات المالية التي تواجهها قوى المقاومة وخصوصاً حماس والجهاد، ستستمر وتتزايد. كما أن محاولات تهميش هذه القوى وإضعافها سياسياً وشعبياً ومحاصرتها إعلامياً ستستمر. غير أن الأزمات التي تعاني منها القوى المنافسة أو المعادية للمقاومة (داخلياً، وإسرائيلياً، وعربياً، ودولياً)، ستُمكن المقاومة من تجاوز عنق الزجاجة في النهاية.
الصعوبات المالية التي تواجهها قوى المقاومة وخصوصاً حماس والجهاد، ستستمر وتتزايد. كما أن محاولات تهميش هذه القوى وإضعافها سياسياً وشعبياً ومحاصرتها إعلامياً ستستمر
خامساً: فوز الليكود، وتصاعد الهجمة الصهيونية على القدس، وزيادة وتيرة الاستيطان: إذ إن الاتجاهات اليمينية والدينية المتطرفة في المجتمع الصهيوني ما تزال تمثل الأغلبية وهي في تزايد واتساع. ويتوقع لها أن تفوز في الانتخابات الإسرائيلية القادمة.
ثم إن وجود دعم أمريكي قوي، في ظلّ إدارة ترامب، لهذه الاتجاهات، مع غياب الدور العربي والإسلامي في دعم القضية الفلسطينية دعماً جاداً، مع دخول عدد من الأنظمة العربية في مسار التطبيع، سيدفع الطرف الإسرائيلي للاندفاع بشكل أكبر نحو مزيد من برامج التهويد خصوصاً في القدس، ومحاولات فرض التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى.
سادساً: مبادرات فلسطينية وتزايد الدور الشعبي: إن تفاقم أزمة النظام السياسي الفلسطيني، وتراجع آفاق المصالحة، وتدهور دور المنظمة والسلطة في حمل هموم الشعب الفلسطيني، ومعاناة برنامج المقاومة؛ سيدفع باتجاه قيام رموز وقوى شعبية فلسطينية بمبادرات، سواء لإعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني، أم للمحافظة على الثوابت والحقوق الفلسطينية، أم لتفعيل أدوار القوى الشعبية والمستقلة في الشأن الفلسطيني.
ولعل المبادرة الشعبية التي أطلقت مسيرات العودة في قطاع غزة، وكذلك المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج، وكذلك مبادرة القوى اليسارية الفلسطينية لتوحيد جهودها ضمن "التجمع الديموقراطي الفلسطيني".. كل ذلك يصب في هذا الاتجاه، وهي مبادرات مرشحة للتزايد والاتساع في داخل فلسطين وخارجها في ظلّ عجز وضعف القيادة الفلسطينية. وفي هذا الإطار، فإن دور فلسطينيي الخارج ربما يملك فرصاً وآفاقاً أوسع مع غياب المنظمة والسلطة عملياً عن تمثيلهم وعن قضاياهم وهمومهم.
دور فلسطينيي الخارج ربما يملك فرصاً وآفاقاً أوسع مع غياب المنظمة والسلطة عملياً عن تمثيلهم وعن قضاياهم وهمومهم
سابعاً: بيئة عربية عاجزة وغير مستقرة: لا يبدو أن تغييراً كبيراً مؤثراً على القضية الفلسطينية؛ سيحدث في البيئة العربية خلال الأشهر القادمة. فقد حملت سنة 2019 أزمات السنوات السابقة، حيث انشغلت العديد من الأنظمة العربية بمشاكلها الداخلية. وما تزال الشعوب تدفع فواتير محاولات الثورة والإصلاح والتغيير، كما أن بعض الأنظمة يظن أن حالة استقراره مرهونة بالرضا الأمريكي عبر البوابة الإسرائيلية (التطبيع)، وهو ما ينعكس سلباً على قضية فلسطين.
ومن جهة أخرى، فإن صمود الشعب الفلسطيني، وصمود المقاومة وإبداعها، وانكشاف الوجه الصهيوني القبيح، واستمرار عدوانه على الأقصى والمقدسات، وعلى الأرض والإنسان؛ ووجود حاضنة شعبية عربية وإسلامية واسعة داعمة للقضية؛ سيبقى عدداً من الأنظمة متردداً في الاندفاع نحو التطبيع. كما أن الأنظمة التي تتعاطف مع المقاومة، ستجد في تصاعد المقاومة، فرصة لتجاوز الضغوط الأمريكية الغربية، ورفع وتيرة دعمها للمقاومة. ثم إن الأنظمة العربية المحبطة من سوء الأداء الأمريكي قد تجد فرصة للالتفات بشكل أفضل إلى مصالحها وفق أجندتها الوطنية وأمنها القومي، مما قد يعزز من دعمها لقضية فلسطين.
الأنظمة العربية المحبطة من سوء الأداء الأمريكي قد تجد فرصة للالتفات بشكل أفضل إلى مصالحها وفق أجندتها الوطنية وأمنها القومي، مما قد يعزز من دعمها لقضية فلسطين
ثامناً: تواصل الدعم الأمريكي لليمين الإسرائيلي، وتضعضع "صفقة القرن": يبدو أن إدارة ترامب ستواصل دعمها لليمين الإسرائيلي ولرؤيته لمسار التسوية، وستسعى لتوفير الغطاء الدولي لشرعنة سيطرة الكيان الإسرائيلي على القدس؛ ولإغلاق ملف اللاجئين الفلسطينيين. غير أنها قد تجد نفسها أكثر انشغالاً بمشاكلها الداخلية بعد فوز الديموقراطيين في مجلس النواب؛ وفي وضع أضعف فيما يتعلق بفرض إرادتها على البيئة الدولية، مع تزايد القوى الدولية المستاءة من سياساتها. كما ستصطدم بأن ما يسمى بـ"صفقة القرن" هو عملياً غير قابل للتنفيذ، مع وجود الرفض الفلسطيني، والبيئة العربية المترددة في دعمها، أو المعارضة لها (وإن كانت غير راغبةٍ في مواجهة "الكاوبوي" الأمريكي بشكل مباشر)، فضلاً عن عدم رغبة الطرف الإسرائيلي نفسه في دفع أي أثمان أو استحقاقات جادة مرتبطة بالتسوية. وبالتالي، فإن أفق التسوية سيظل مسدوداً.
وهكذا، فلعل قضية فلسطين تواجه سنة صعبة في 2019، لكنها سنة مخاض، تصبُّ في بيئة انتقالية، تدفع باتجاه انهيار مسار التسوية وتجربة "أوسلو"، وتُعزّز من فرص صعود خط المقاومة بالرغم من الصعوبات التي يواجهها.
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- عربي 21