يخطئ من يظنّ أن ملف التغيير في العالم العربي قد طواه النجاح المؤقت للثورات المضادّة، وما توتر الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في بلدان، مثل مصر والأردن والمغرب والجزائر، سوى دليل على أن ثمّة حاجة ماسّة لتغييراتٍ بنيويةٍ حقيقيةٍ لسحب فتيل الانفجار. ومن ينظر إلى السودان، وما يجري فيه الآن، يكتشف أن شراء الوقت ليس في صالح الأنظمة السلطوية التي ترفض الاستماع لصوت شعبها في الوقت المناسب، فقد انتقلت المطالب من إصلاح للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية إلى مطالبة برحيل النظام. صحيح أن الدولة العربية تخشى تغييراً قد يطيح مَن في السلطة، أو يقلّص نفوذهم، بيد أن إبقاء الأوضاع على جمودها وعفنها قد يأتي بتغييرٍ يطيح هذه الدولة من جذورها، على نحو ما هو قائم الآن في أكثر من بلد عربي. وتظل الحركات الاجتماعية والدينية العنيفة أحد مؤشرات الانفجار الذاتي للمجتمعات العربية، ومرآةً عاكسة لفشل الدولة في تحقيق وظيفتها الاحتوائية والإدماجية لفئاتها وحركاتها المختلفة.
"إبقاء الأوضاع على جمودها وعفنها قد يأتي بتغييرٍ يطيح هذه الدولة من جذورها"
في ظل خلفية كهذه، يمكن قراءة سلسلة الأزمات الراهنة التي تكاد تطيح سلطة الدولة في العالم العربي، وتدفع الحركات الانفصالية إلى صدارة المشهد السياسي العربي، فلا يمكن ردّ مشكلة الحوثيين في اليمن ابتداءً إلى نزعة إيديولوجية أو رؤية عقائدية متطرّفة، أو حتى إلى نزعة سياسية انفصالية، إنما هي بالأساس تعبر عن أزمة بنيوية اجتماعية، ناجمة بوضوح عن فشل الدولة اليمنية في مرحلة ما بعد الاستقلال في تحقيق الحد الأدنى من الاكتفاء الوظيفي والإشباع النفسي لأحد مكوناتها الاجتماعية. وهي نسخة مكرّرة عن مشكلة الجنوب، التي زادت حدّتها خلال الأشهر القليلة الماضية، والتي تعكس الفشل الذريع للنظام اليمني في استثمار الوحدة التي تحققت قبل عقدين بين الشمال والجنوب، ولم ينجح في تحويلها من وحدةٍ جغرافيةٍ وإداريةٍ إلى وحدة سياسية واجتماعية، كان لها أن تصبح نواة صلبة لدولة قوية. ولا يستوي الحديث هنا عن أدوارٍ خارجيةٍ وألاعيب إقليمية، فأسباب الأزمة اليمنية داخلية ابتداءً، ولن يكون الخروج منها إلا بإعادة النظر في مشروع الدولة ذاته، وقدرة الفصائل اليمنية على إعادة تعريف هذا المشروع، ومدى قدرته على إيجاد بيئة جديدة للتعدّدية والتعايش بينها.
وما ينطبق على اليمن حادث بالفعل في بلدان أخرى، مثل السودان الذي انفصل جنوبه عن شماله، بسبب فشل الدولة الوطنية في تسويق مشروعها الوطني بديلاً عن الولاءات المحلية، ووقف نزعاتها الانفصالية. وفي ظل عدم تقديم النظام الحالي تنازلاتٍ حقيقيةً، استجابة للانتفاضة الجارية، فلربما تتم عسكرة الانتفاضة، والدخول في حرب أهلية، قد تطيح بقية أقاليم السودان ومناطقه. وفي حالاتٍ أخرى، يبدو الخطر نفسه ماثلاً، ولو من بعيد، كما هي الحال في مصر والجزائر والمغرب، فالمجتمع المصري تتوفر لديه كثير من مقومات التمرّد والانفجار، وإن كانت السلطة المركزية وجهازها الأمني والبيروقراطي يمتازان بقدرٍ من الردع والاحتواء، فلم يكن لأحدٍ، قبل أعوام قليلة، أن يسمع عن بؤر التوتر الاجتماعي والديني التي تزايدت حديثاً في شكل مخيف. ربما لن تتحوّل مصر إلى دولة فاشلة بالمعايير المعروفة، مثل انهيار سلطة الدولة، أو تحلل نظامها السياسي، بيد أن ذلك لن يحول دون تآكل مقومات احترام الدولة، وانخفاض رأسمالها المعنوي، بفعل ضعف أدائها الاقتصادي، وتشوّه الوضع الاجتماعي، فضلاً عن الفشل في إنجاز وظيفتها الاستيعابية لكثير من فئاتها وجماعاتها.
"ربما لن تتحوّل مصر إلى دولة فاشلة بالمعايير المعروفة، بيد أن ذلك لن يحول دون تآكل مقومات احترام الدولة"
مكمن الخطر في العالم العربي الآن ليس في انهيار إحدى دوله من عدمه، وإنما في قدرة بنيته الاجتماعية على الصمود في وجه الاستحقاقات المؤجلة منذ أكثر من نصف قرن، فلم يعد شيء صعب الحدوث في منطقتنا، فمن كان يتخيّل أن تسقط أنظمةٌ سلطويةٌ عتيدة (أو على الأقل رؤوسها) كما حدث في مصر وتونس وليبيا واليمن؟ ومن كان يظن أن يصبح اليمن وسورية وليبيا ضمن حزام الدول الفاشلة؟
كما أن انفجاراً قادماً لا يبدو بعيداً عن العالم العربي، وذلك انطلاقاً من عدة عوامل بنيوية، أولها انتهاء صلاحية المشاريع الوطنية للدولة العربية، وبفعل تآكل الشرعية والفشل الاقتصادي والظلم الاجتماعي. ثانيها، زيادة النزعة الإقصائية والاستئصالية للدولة العربية، التي تعبر عن نفسها يومياً في السلوك القمعي والبوليسي لأجهزتها ومؤسساتها، ما يولّد احتقاناً مجتمعياً وطائفياً يعزّز نزعات التمرّد، ويدفع بدائل الاقتتال الأهلي والانفصال إلى الواجهة. وثالثها، وجود أدوار وقوى خارجية تسعى إلى استثمار ما سبق، من أجل تعزيز حضورها في الساحة العربية، وهذه لا تعمل من دون توفّر ما سبق.
وتظل الرغبة في احتكار السلطة إلى الأبد، من دون شراكة أو محاسبة من المجتمع وقواه الحية، أحد العوامل القابعة خلف احتقان الأوضاع في البلدان العربية، وهو ما يجعلها عالقة بين استقرار هشّ، لا يضمن بقاء السلطة لدى محتكريها، أو تغييرٍ عنيفٍ يطيح الدولة والمجتمع معاً.
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- العربي الجديد