تقوم دعوة كل الأنبياء الذين بعثهم الله على أساسين اثنين: العقيدة، والتشريع. فأما العقيدة (أو الدين) فمضمونها واحد دوماً لا يتبدل منذ بعثة آدم عليه السلام حتى قيام الساعة ، وهي الإيمان بوحدانية الله تعالى، وإخلاص العبودية له وحده، وتنزيهه عن كل ما لا يليق بجنابه تعالى، والإيمان باليوم الآخر والحساب والنار والملائكة والقدر والكتب السماوية والأنبياء.
وكان كل نبي يأتي مصدقاً لنفس هذه العقيدة التي جاء بها من قَبله، ويبشر بالنبي القادم بعده، وهكذا تعددت البعثات والعقيدة واحدة، كما قال تعالى: {شرعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} [الشورى: 13].
أما التشريع فهو مجموعة الأحكام التي يتم بها تطبيق العقيدة وتنظيم حياة الفرد والمجتمع، وبالتالي يختلف في الكم والكيف تبعاً للتطور الزمني والحضاري للأمم المرسل إليها؛ لأن فكرة التشريع قائمة أساساً على ما تقتضيه مصالح العباد في دنياهم وآخرتهم، وهذه المصالح متغيرة بتغير الزمان، وكانت بعثة الأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم محصورة في إطار أقوام معينين، فشُرّع لهم حسبما اقتضاه حالهم وقتها.
فكرة التشريع قائمة أساساً على ما تقتضيه مصالح العباد في دنياهم وآخرتهم، وهذه المصالح متغيرة بتغير الزمان
واسمع –مثلاً- إلى قول سيدنا عيسى عليه السلام، في أكثر من موضع في القرآن:
1) {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ...} [الصف، آية: 6].
2) {وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} [المائدة: 46].
3) {وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ...} [آل عمران:50]
في كل ذلك بيّن لهم أنه فيما يتعلق بأمور العقيدة فهو مصدق لما جاء في التوارة -غير المحرفة- ومؤكد لها من إثبات الألوهية والوحدانية لله، أما بالنسبة للتشريع وأحكام الحلال والحرام، فقد كلّفه الله تعالى بما بيّنه من تغييرات وتيسير، كتحليل بعض ما كان حُرّم على بني إسرائيل قبلهم في الشريعة السابقة.
ومن هنا، كانت مقولة "شريعة من قبلنا شريعة لنا إذا لم يَرِد ما يخالفها "؛ لأن شريعة كل رسول ناسخة لما قبلها، أي يكون العمل بمقتضى التشريعات الجديدة حيث كان جديد، وإذا اتفق التشريع الجديد مع أشياء من التشريع القديم أو سكت عنها، فلا حرج في العمل بها، أما العقيدة فتظل واحدة ثابتة لا جديد فيها؛ لأنها متعلقة بمقام الألوهية لا بشؤون الناس، والله سبحانه واحد لا يتبدل ولا يتحوّل، والدين كله لله، فالدين كذلك واحد، ولا يعني ثبات العقيدة وتغير الشريعة أن باحة التشريع مستباحة للخلق يبدعون فيها ما يشاؤون من أحكام! وإنما كما أن الثبات من عند الله، فالتغير كذلك بأمره جل وعلا، وحركة العباد فيه بالاجتهاد والتأويل لها ضوابطها وأطرها وفقاً لذلك لا رغم ذلك!
لا يعني ثبات العقيدة وتغير الشريعة أن باحة التشريع مستباحة للخلق يبدعون فيها ما يشاؤون من أحكام
يتضح إذن من هذا العرض خرافة وجود "أديان" سماوية، فتعدد الأديان يعني بالضرورة تعدد الآلهة، ولا يصح ذلك عند من يعتقد في واحدية الله تعالى ، وأما السماوية، فنسبة لنزولها من عند الله، وهذا صحيح من حيث المبدأ، أي قبل تحريفها البشري، وإن ظلت بالاصطلاح كما سماها الله، لكنه لا يعني ثباتها إلا بأمر منزلها، والله تعالى قرر أن الدين الخاتم هو الباقي، وهو الإسلام بعقيدته المصدقة لما قبله، وبشريعته الناسخة لما قبله.
وبهذا قضت مشيئة الله تعالى حتى قيام الساعة، ولا يقبل الله من عباده غير الدين الواحد، فحريّ بمن آمن بالله تعالى ألا يعتقد بسماوية إلا الدين الواحد !