لا تحاسدوا فتفشلوا!

الرئيسية » خواطر تربوية » لا تحاسدوا فتفشلوا!
design_thinking

سعينا الحثيث في دروب الحياة من بدايته لنهايته إنما يدور في فلك غاية واحدة لا ثاني لها، فمهما تعددت الوسائل واختلفت المظاهر، تبقى عبودية الله غاية الوجود، الكل له سعيه، عمله، حياته، أنفاسه، حركاته، سكونه، كل ذلك خطوات مرسومة في سبيل هذه الغاية، فهذا هو الأصل الذي ينبغي أن يضعه البشر نصب أعينهم في تعاقب فصول حياتهم.

والأصل في ذلك أيضاً، أنّ لكل منا وظيفة في وجوده، يتحرك ضمنها، ويسعى في تحقيقها، يكمل بعضنا بعضاً، تماماً كما أعمدة الإضاءة على جنبات الطريق، تضيء للسائرين دروبهم، كل لها مساحتها التي تضيئها، وحيث آخر مدى يبلغه شعاعها تبدأ الإنارة الثانية من حيث انتهاء الأولى، لتتبع النور بنور جديد، فالكل في ميدانه الذي أهّله الله له، وفي مكانه الذي وضعه الله فيه، لا يُكلّف إلا نفسه ولا يُسأل عن غير كسبه وسعيه ، فعندما يدرك المرء فينا وظيفته ومهمته وواجباته وحقوقه، يدرك ضمناً أنّ المسؤولية الملقاة على عاتقه لهي أثقل من أن يزيغ بصره عنها، لينظر في مساحات الآخرين من المسؤوليات الملقاة على عواتقهم، أو حتى من النعم التي يتمتعون بها، بل تحتم عليه أخوته إذا فرغ من مهامه أن يمدَّ يد العون لأخيه، فيسعى لقضاء حاجته، فإن وجد في نفسه ووقته بحبوحة جاد بها على من ضاقت أوقاتهم ونفوسهم.

من خلال هذا النهج في تعاملك مع الآخرين، وفي خطوات سيرك عبر هذه الحياة الفانية، تكون قد ضربت حول نفسك وقلبك حصناً منيعاً من أمراض تنهش مخالبها أرواح وقلوب الكثيرين منا، لدرجة أنها حرفت إبرة البوصلة في توجيههم فأشغلتهم الوسائل عن الغاية، وشوّهت صفاء قلوبهم، وأفسدت تآلف أرواحهم، فانقلب الودّ لبغضاء، وعصفت بتآلف أرواحهم ومؤاخاة قلوبهم عواصف الحسد والأثرة، واشتعلت ألسنة التدابر بربيع أعمارهم وأعمالهم.

وحتى يبقى المجتمع المسلم سليماً معافى في روحه وبدنه، كان لا بدّ أن يتعامل مع نصوص الوحي -من قرآن وسنة- بتفكر وتدبر وترجمة في سلوكه وقيمه وأخلاقه، بل يأخذ به وكأنه الأوكسجين الذي يستحيل استمرار الحياة بدونه.

والمتدبر للنصوص الشرعية يجد من جماليتها وحكمتها أنها تأخذ بالتربية الوقائية حتى تجنب الفرد والمجتمع الوقوع بتلك الأمراض التي تفتك بالأمة بأسرها، فلا تنتظر الإصابة لتقدم العلاج، بل تعمل على ألا يصيبنا الداء من الأساس ، ومن الأدواء التي تعامل معها الشرع الحنيف بمزيد من الحذر، وشدّد من مغبّة الإصابة بها: (الحسد)، فهو مرض خبيث إذا أصاب قلب أحدنا قلَب حياته رأساً على عقب، وتعثّرت منه الخطى بل ضلّت الطريق تماماً.

فجاءت الإضاءات الربانية لتسلط الضوء على خطره ونتائجه الفادحة، فضرب لنا أمثلة، وقصّ علينا خبر الذين أُصيبت قلوبهم بسهامه، وتلوثت أرواحهم بأوبائه، وما آلت إليه أحوالهم نتيجة لذلك، ويكفي أن نسلّط بهذه الوقفة الضوء على قصة ابني آدم، لنتبعها بالقواعد الربانية التي تقينا مما أصاب ابن آدم الأول، إذ يقول تعالى في خبر ابني آدم عليه السلام: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [سورة المائدة، آية:27]، وجاء في تفسير هذه الآية الكريمة: "يقول تعالى مبيناً وخيم عاقبة البغي والحسد والظلم في خبر ابني آدم، كيف تعدّى أحدهما على الآخر فقتله؛ بغياً وحسداً له، فيما وهبه الله من النعمة، وتقبل القربان، ففاز المقتول بوضع الآثام والدخول إلى الجنة، وخاب القاتل ورجع بالصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة" (عمدة التفسير-ابن كثير).

فهذه اللفتة القرآنية التي تبصرنا بخطورة هذا الداء، كم مرة مررنا عليها في تلاوتنا لها آناء الليل وأطراف النهار! ولكنها مرت بقلوب لا تفقه! وبأعين لا تبصر! وبأرواح لا تزهر بالقرآن! إذ لو كانت قلوبنا وأرواحنا وأبصارنا بحال غير هذا الحال لما فرّق الحسد جماعاتنا، ولا مزّق صفوفنا، ولا قطع من صلاتنا وعلاقاتنا في الرحم والقرابة، وتلك التي في الله، كم من ابني آدم تتكرر حادثتهم! وهذا القرآن فينا شاهد وحاضر، كم من دخان الحسد أعمت بصيرته فأشغله حظ نفسه عن الحق، وكم منا أضرمت نيران الحسد ألسنتها في ربيع قلبه، فجعلته كما العصف المأكول لا ينصت لداعي الحق، مزّق الحسد أوصاله أجزاء في سبل الضلال متطلعاً لما بيد غيره، وقد كان جلّ الأمر أن يجمع قلبه وبصره على غاية واحدة من خلال ما رزقه ومكنه الله به لا أقل ولا أكثر!

كم من ابني آدم تتكرر حادثتهم! وهذا القرآن فينا شاهد وحاضر، كم من دخان الحسد أعمت بصيرته فأشغله حظ نفسه عن الحق، وكم منا أضرمت نيران الحسد ألسنتها في ربيع قلبه، فجعلته كما العصف المأكول لا ينصت لداعي الحق، مزّق الحسد أوصاله أجزاء في سبل الضلال

ويُعبّد الشرع الطريق من أمامنا في سبيل الوقاية بل والعلاج من هذا الداء الفتّاك بكثير من التوجيهات القرآنية والنبوية، نكتفي في هذه العجالة بإضاءة قرآنية وأخرى نبوية، حتى إذا انتهجناهما في سعينا وسيرنا، حافظنا على سلامة قلوبنا، وصحة أرواحنا، فكيف إذا توقفنا مليّاً عند النصوص الأخرى، وأخذنا بها بتسليم واقتناع كما يأخذ المحموم جرعة الدواء؟!

القاعدة الأولى: قوله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ} [سورة طه، آية:131]، فقد عبر القرآن الكريم بالزهرة؛ لأنّ عمرها قصير، فسرعان ما تذوي وتذبل وتموت (مع قصص السابقين في القرآن، صلاح الخالدي)

فالكيّس من صوّب نظره ووجّه عمله واستثمر لحياته الباقية؛ لأنّ التنافس الحقيقي لا يكون في متاع زائل، وإنما يوجه الله طاقاتنا لما هو أعزّ وأجلّ، لقوله تعالى: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [سورة الكهف، آية:46]، فهل بعد هذا يستحق الأمر منا كل هذا العناء، أما كان الأولى والأنفع لنا أن نستحضر نعم الله علينا ونشكره عليها بدلاً من تنقل قلوبنا وعيوننا في نعم الآخرين، ونتخلق بالرضا والتسليم لنحقق الغاية من وجودنا بكل ما أوتينا من وسع.

القاعدة الثانية: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً) (رواه البخاري) ، ويعلّق "ابن رجب الحنبلي" في شرح هذا الحديث عن أقسام الناس في الحسد فيقول: "فمنهم من يسعى في زوال نعمة المحسود بالبغي عليه بالقول والفعل، ثم منهم من يسعى في نقل ذلك إلى نفسه، ومنهم من يسعى في إزالة عن المحسود فقط من غير نقل إلى نفسه، وهو شرهما وأخبثهما، وهذا هو الحسد المذموم المنهي عنه، وهو كان ذنب إبليس حيث كان حسد آدم عليه السلام لما رآه قد فاق على الملائكة..." (جامع العلوم والحكم).

ويكفي الحاسد مذمَّة أن يكون في حسده قد اتبع ابن آدم القاتل، ومن قبله إبليس الذي توعَّد أن يغوينا؛ إذ يقول تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [سورة الحجر، آية:39]، وهل الحسد إلا خطوة أولى على طريق الغيّ يتبعها خطوات من التدابر والتباغض والبغي الذي يفكك من أوصال الأمة، ويمزق جمعها ويهدد أمنها وسلامتها ؟! وانظر وتدبر في قول الرحمة المهداة للعالمين عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم: (سيصيب أمتي داء الأمم)، فقالوا: "يا رسول الله وما داء الأمم؟" قال: (الأشر، والبطر، والتكاثر، والتناجش في الدنيا، والتباغض والتحاسد حتى يكون البغي) (رواه الحاكم في المستدرك)

فالأمر جلل ويحتاج لمزيد عناية في القلب والنفس، فلا يترك الإنسان نفسه مسترسلاً مع آفاتها، وإنما يجاهد؛ ليرتقي ويحررها من آثامها، وينقيها من شوائبها، فالأجدى أن ينشغل المرء بنفسه بدلاً من تتبع الآخرين، ويرضى بقدره سواء من مال أو صحة أو جاه أو منصب ، وينيخ راحلته بباب مولاه متذللاً طالباً منه العطاء والبركة والرزق والتوفيق والإعانة، فإن أبَت نفسه إلا النظر لما بيد الغير، وقتها يرشف من جرعات دواء يضعها بين يديه "ابن رجب الحنبلي" رحمه الله؛ إذ يقول: "إذا وجد في نفسه الحسد، سعى في إزالته، وفي الإحسان إلى المحسود بإسداء الإحسان إليه، والدعاء له ونشر فضائله، وفي إزالة ما وجد له في نفسه من الحسد، حتى يبدّله بمحبة أن يكون المسلم خيراً منه وأفضل، وهذا من أعلى درجات الإيمان، وصاحبه هو المؤمن الكامل الذي يحب لأخيه ما يحب لنفسه" (جامع العلوم والحكم).

فإن كان الحسد يورِّث التدابر والتقاطع، بل والبغي والقتل، فإنّ مدافعته والاستعانة بالله على ذلك يورِّث في قلبك محبة لإخوانك المؤمنين، وتذكر أن كمال الإيمان ينص عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) (رواه البخاري)، فإن كنا في حياتنا الدنيا ننافس غيرنا لنسبق في نعيمها الزائل، فإن الأجدر أن نتنافس على حياة لا زوال فيها ولا فناء، والإيمان سبيلنا في ذلك، فإن كنت لا تقبل أن يتفوق في الفانية عليك أحد، فاحرص على أن تكون من السباقين بالأخرى، وذلك بأن تحب لأخيك ما تحبه لنفسك، واستعن بالله ولا تعجز .

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة حاصلة على الدكتوراة في العقيدة والفلسفة الإسلامية من جامعة العلوم الإسلامية العالمية في الأردن. و محاضرة في جامعة القدس المفتوحة في فلسطين. كتبت عدة مقالات في مجلة دواوين الإلكترونية، وفلسطين نت، وشاركت في المؤتمر الدولي السادس في جامعة النجاح الوطنية حول تعاطي المخدرات. مهتمة بالقضايا التربوية والفكرية، وتكتب في مجال الروحانيات والخواطر والقصة القصيرة.

شاهد أيضاً

مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …