لا تنسوا الفضل بينكم

الرئيسية » خواطر تربوية » لا تنسوا الفضل بينكم
Senior and junior business people discuss something

أهم ما يميز المجتمع المسلم الذي ينشأ نشأة صحيحة وفق مبادئ ومعايير شريعة السماء يجد فيه من الخصائص والأسباب ما يدفع به لعلياء الأمور وقممها بعيداً عن سفاسفها، بل تجد فيه الحاضنة للفرد وحصنه المنيع، ترتبط قلوب أفراده بعضها ببعض حتى لا يكاد يهدأ لأحدهم جفن ما دام أخوه المسلم في عناء أو مصاب فيؤازر كل منهما الآخر بما يستطيع من ماله ووقته ونفسه بل وقلبه.

وأصدق ما قيل عنه وعبر عن حاله قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون كرجل واحد إن اشتكى رأسه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" (رواه مسلم)، ثم انظر للرقي في المعاني الإنسانية التي يسعى الشارع الحنيف لإرسائها وترسيخها في المجتمع بل في الأمة الواحدة التي تدين بدين واحد وتتوجه في عبوديتها بل في سكناتها وحركاتها للواحد الأحد سواء كانت هذه العبادة مرتبطة بالمال أو الجوارح إذ يقول صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" (رواه البخاري)، صلى الله على الرحمة المهداة للعالمين فلم يحجر الإيمان في عبادات تؤدى ساعة من نهار أو ليل أو صدقة مال أو قوت؛ بل ثمة عبادة يتحقق الإيمان بها ألا وهي: محبة الواحد منا لأخيه ما يحبه لنفسه لا أقل من ذلك .

ويمنن الله على عباده بقوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [سورة آل عمران: آية103]، وقال المفسرون حول هذه الآية: "عندما جاء الإسلام ودخل فيه من دخل صاروا متحابين بجلال الله متواصلين في ذات الله متعاونين على البر والتقوى" (عمدة التفاسير)، فالصلة التي يريدها الله بين عباده صلة محفوفة بالتعاون والألفة محذرا من مغبة الانجرار وراء الشيطان وخطواته الذي يسعى جاهدا أن يلقي ببذور الشقاق والبغضاء بين عباد الله {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [سورة المائدة: آية91].

ولأنّ الحياة لا تخلو من المشاكل نتيجة لاختلاف الطبائع البشرية وتفاوت في نفوس البشر وصفاتهم، وقد تعصف رياح الشقاق بين أخوة الدين كما هو الحال في أخوة الدم والنسب بل ويمتد ذلك للزوجية كان لا بد من معيار نحتكم إليه ونعود إليه في مشاكلنا وفي مواجهة عثراتنا، ولأنّ الذي فطرنا يعلم ما سيعترض البشرية من عقبات فقد وضع لنا قاعدة نورانية إذا ما سرنا على معالمها واتبعنا أنوارها تجاوزنا كثيراً من مشكلاتنا وبأقل الخسائر والتضحيات وتتجلى في قوله تعالى: {وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سورة البقرة: آية237].

إذ ليس أصعب على النفس ولا أكثر إيلاماً لها من أن تنشأ صلة أو علاقة بغض النظر عن أسبابها سواء كانت من نسب أو قرابة أو أخوّة في الله ويتشارك أفرادها في السراء والضراء وبعد فترة من الزمن يكتنفها الفتور بل ويبلغ الحد أنّ تتسع الهوة لتصبح تربة خصبة لبذور الخلاف والشقاق حتى تنمو وتصبح سداً منيعا يحول بين أحباء الأمس أعداء اليوم، وإنه لمن مكارم الأخلاق وحسن الخلال البقاء على الصلات الطيبة والمحافظة عليها  وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله: الحر من راعى وداد لحظة، فإن لم تحافظ على صلتك بأخيك أو قريبك أو أي كان وعجزت أن تمد هذه الصلة بشريان الحياة والاستمرار فلا أقل من أن تحفظ الود والفضل القديم الذي كان.

(لا تنسوا الفضل بينكم) هذه القاعدة التي جاءت بها التوجيهات الربانية في آيات الطلاق من سورة البقرة لا يُمنع من أن نأخذها معياراً في كل الصلات في حياتنا، فكم من وقت ومال وجهد قدمته لأحدهم أو قُدم لك أنت حتى يكاد قلبك يشعر بوعكة قريبك أو صاحبك وإن كان في جهة أخرى من هذا الكوكب وبطرفة عين تختلف القلوب حتى لا تكاد تلتقي الأرواح فيعيش أحدنا في غربة عن الآخرين، بل ويتربص البعض لبعضهم المكائد.

بل ويبلغ المرء أن تُقطع صلات من القرابة ويجافي الأخ أخاه ابن أمه وأبيه ناهيك عن أخيه في الله، ولو تفكرنا في معظم أسباب خلافاتنا هذا إن لم يكن جلها وجدت التنافس على حطام زائل والتنافس على ثمن بخس هو رأس الأمر في كل شقاق ونزاع، فكم من عقوق للآباء وقطع للأرحام وجفاء للخلان كان المال فيه الشرارة الأولى.

لو تفكرنا في معظم أسباب خلافاتنا هذا إن لم يكن جلها وجدت التنافس على حطام زائل والتنافس على ثمن بخس هو رأس الأمر في كل شقاق ونزاع، فكم من عقوق للآباء وقطع للأرحام وجفاء للخلان كان المال فيه الشرارة الأولى

وعلاج كل خلاف يحدث بين أي طرفين إنما يكون بكيفية التعامل واتخاذك أساسا متينا في تقييم الأمور وليس هناك أشد متانة من التوجيهات الربانية وإليك بعضا منها:

1_ اتخذ من قوله تعالى: (وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) قاعدة عريضة تضعها نصب عينيك، فأيما صلة نشأت فهناك فضل منك وفضل عليك، فلا تنس الفضل الذي عليك وتذكر محاسن صاحبك ومعروفه إليك وساعات الود والصفاء بينكما تكون بذلك قد وضعت أول سد في وجه التباغض والضغائن بل في وجه الشيطان الذي يحزنه انتشار الألفة والتعاون بين المسلمين.

2_ أتبع القاعدة الأولى بثانية وقد جاءتك على لسان المصطفى إذ يقول أفضل الصلاة وأتم التسليم عليه: "ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه"(رواه أبو داود)، فهذا الذي صنع معنا معروفاً في يوم ما قل أو كثر إن لم نجد ما نكافئه به فالدعاء له وهل يعقل أن يظل في صدورنا غلّ لأحدهم ونحن نتخير أوقات الإجابة لندعو له.

3_ أتبع الحسنة السيئة ولا تعامل الناس فكن أنت السبّاق للخير، واجعل من توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم البلسم الذي تأخذ منه جرعات الشفاء لقلبك في زمان انتشرت فيه أوبئة الأرواح والقلوب أكثر منها في الأجساد، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: "ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها" (رواه البخاري).

4_أن يكون الرعيل الأول من المهاجرين والأنصار القدوة لنا في تآخيهم ومآثرهم وضربهم لأروع الأمثلة في الإيثار والتسامح، وكتب السيرة والتراجم غنية بصور إيثارهم وتآخيهم وتسامحهم.

5_إن المال مال الله يا مسكين وما هو إلا عارية في يدك فاحرص أن تنفع به غيرك، فليس للإنسان إلا ما أكل فأفنى ولبس فأبلى، وأن اللقمة تتقاسمها مع غيرك لهي زيادة في البركة وأثر جميل لك تجده في سجلك يوم لا ينفع مال ولا بنون، وإن لم تعد بالفضل منه على من تمتد الصلة بينك وبينهم فلا تجعله سبباً في قطيعة رحم أو صلة نسب أو صداقة وأخوّة، وتذكر أنّ المال وسيلة لا غاية.

6_ تيقن كل متاع الدنيا إلى زوال كما أنها لا تساوي مقدار ذرة من نعمة الألفة والسكينة تجدها عند أحدهم يذكرك إذا نسيت ويقدح شرارة العزم فيك على طاعة أو عبادة أو يمسح ذات يوم على جرحك أو يواسيك في ماله ونفسه ووقته فيشد من عضدك في رحلة سعيك في هذه الحياة.

لا تنسوا الفضل بينكم اجعلها شعاراً لقلبك وروحك تذكر بها نفسك وتصد بها معاول الحقد والضغينة والعداوة، فسلامة الصدر رأس مال المرء في هذه الحياة بعد إيمانه بالله قولاً وعملاً .

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة حاصلة على الدكتوراة في العقيدة والفلسفة الإسلامية من جامعة العلوم الإسلامية العالمية في الأردن. و محاضرة في جامعة القدس المفتوحة في فلسطين. كتبت عدة مقالات في مجلة دواوين الإلكترونية، وفلسطين نت، وشاركت في المؤتمر الدولي السادس في جامعة النجاح الوطنية حول تعاطي المخدرات. مهتمة بالقضايا التربوية والفكرية، وتكتب في مجال الروحانيات والخواطر والقصة القصيرة.

شاهد أيضاً

مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …