إنها الحقيقة التي يمارسها العالم الإسلامي اليوم، وهي في نفس الوقت الأكذوبة التي يصدقها الجميع، ليس إلا لأنه لا وجود لما يفخر به العالم الإسلامي اليوم، لا شيء عدا الماضي السحيق، لا شيء عدا ما بناه التاريخ الفعلي للدول الإسلامية في الحقب السابقة لعصرنا، لا شيء عدا ما هدمته أيدي العالم الإسلامي اليوم، كفانا كذبا على أنفسنا واصطناعا لعالم من المجردات والخيالات الزائفة حول تاريخنا المعاصر.
إن النظرة إلى الماضي هي من واقع سيكولوجيا الجماعات هروب من الواقع، وفرار من الحقيقة إلى الخيال، وهو أحد الأمراض الاجتماعية التي تعاني منها الشعوب الإسلامية والعربية على الخصوص، ذلك أن الفرار إلى الماضي ليس إلا عدم رضى الذهنية الجماعية عن الواقع الحاضر حقيقة، وإن كانت الطابات محشوة بما لا طعم له من البحث عن تبرير للواقع الراهن والذي بدوره يخالف معرفتنا بمعنى الحضارة استنادا إلى مفهومها كما يصورها لنا تاريخ شعوبنا قبل المرحلة التي نعيشها.
إن حاضر العالم العربي والإسلامي عموما من وجهة نظر التاريخ هو عدم التطابق الواقعي بين النظرية والتطبيق، إن واقع المجتماعات الاسلامية مخالف تماما لتصورنا حول الحضارة والقيم والمعرفة، نحن نتحدث عن أفكار؛ ولكن لا وجود لتلك الأفكار إلا ذهنيا، إنها مجرد تصورات لا وجود لها أصلا، وهذا هو الخطأ الذي لا يتنبه إليه بنهضة اجتماعية عارمة للشعوب من أجل تغيير الذهنيات وتصحيح المفاهيم تصحيحا يجمع بين النظرية والتطبيق، إن الحضارة لا تبنى على أنقاض التخلف الذهني الجماعي.
من حيث حركة التاريخ إن التغير الجماعي للرأي العام حول البناء الحضاري لا يتأتى إلا بتغيير الذهنية الفردية المكونة للثقافة الاجتماعية الكلية، وما يعانيه العالم العربي والاسلامي هو عدم الاهتمام باستثمار في الأفكار التجديدية وعدم الاهتمام في رأس المال البشري، والأكثر ضررا ليس عدم اهتمام الحكومات الإسلامية بذلك، بل الضرر الأكبر مخبوء في فقدام الاهتمام بذلك داخل المجتمعات نفسها، فالشعوب الإسلامية تفتقد إلى روح المبادرة الإصلاحية والنهضوية، فالسلطة لا تعطي الحضارة وإن كانت تستطيع ذلك فسيكون الإصلاح السلطوي بين أمرين أحلاهما مر هما:
أن الإصلاح سيكون موجها.
عدم اليقين بالمبادرة السلطوية إلى بناء الحضارة.
لطالما كانت قمة الهرم الاجتماعي لا تبنى إلا على أساس رسوخ القواعد الاجتماعية المتمثلة في الشعوب، بالتالي لا تكون المفاعلة السلطوية إلا مسرّعة أو ميسّرة للفعل الاجتماعي في بناء التاريخ الواقعي.
إن إلقاء نظرة في المسار التاريخي للنهضة الأوربية على سبيل المثال سيوضح لنا بكل جلاء حركة المجتمعات الأوربية في الإصلاح الفكري، بل سيتجلى لنا بكل بساطة حركة إصلاح الذهنيات الاجتماعية حول الواقع من حيث ما كان وما يجب أن يكون، فالنهضة الأوربية لم تكن نهضة الحكومات ولا كانت نهضة مجردة محصورة في رجال النهضة وإن كانت النخبة المفكرة في أوربا هي التي فتحت الباب الذي عبرت منه الشعوب الأوربية من عالم المجردات إلى عالم المادة لا من حيث البعد عن الدين كما حدث معها ولكن من حيث واقعية الأفكار والتصورات والبعد عن التقوقع داخل غرفة الفخر الماضي، ومن هنا بدأت أوربا صراعها من أجل بناء ما هو أجَلّ من التاريخ، من هنا قطعت أوربا طريقها من التصور المغلوط عن حتمية التاريخ إلى صناعة الحتمية التاريخية نفسها.
إن واقع البقاء في حيز التعلق الأعمى بالماضي هو العقبة التي حالت بين العالم الإسلامي وبين حاضره، وهو العقبة التي ستحول بينه وبين المستقبل الذي يرسم في لحظتنا هذه حتمية تاريخية تلقي بالمجتمعات العربية في مهب الريح، فالماضي تاريخ والتاريخ يصنعه رجاله ولا حق في الافتخار بالتاريخ لمن لم يصحح مسار التاريخ في ذهنيته كفرد لصناعة الذهنية الجماعية لما حوله.