في صحيح مسلم: عن أبي بن كعب رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ مُوسَى قَامَ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ. فَقَالَ: أَنَا. فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِنَّ لِي عَبْدًا بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ).
ثم تقول القصة: إن موسى عليه السلام طلب من الله أن يدله على مكان الخضر، حتى يلزمه ويتعلم منه، فدله الله عليه، وطلب موسى منه لما لاقاه أن يقبل بملازمته للتعلم، فرفض الخضر ذلك في بداية الأمر، وأخبر موسى أنه لن يستطيع صبرا على تعلم علمه، فهو مما يثقل عن التحمل، لكن موسى عليه السلام ألح عليه، فوافق الخضر في النهاية، ولازمه موسى وقتا، ثم أنهى الخضر هذه الملازمة لما رأى عدم اصطبار موسى على علمه وأحواله.
الخضر وقصته من الأصول الكبيرة التي تعتمد عليها الحركة الصوفية. والصوفية هي حركة فكرية وسلوكية إسلامية ظهرت قديماً في تاريخ الإسلام.
وقد اختُلف في سبب التسمية (الصوفية)، واختُلف كذلك في الحديث عن البداية والنشأة والآباء المؤسسين.
ومما قيل في التسمية نسبتها إلى الصوف الذي كان الأوائل يلبسونه زهدا وخشونة، و مما قيل في الأوائل أنهم أهل الصُّفة، وهم نفر من فقراء الصحابة المعدمين، الذين كانوا لا يملكون أموالاً ولا بيوتاً، وكانوا يتخذون من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بيتاً لهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتته صدقة بعث منها إليهم، وإذا أتته هدية أشركهم فيها.
وقصة موسى والخضر تمثل للاتجاه الصوفي التكأة الكبرى في فكرته. إذ يتحدث أهل التصوف عن ثنائية موسى والخضر، وثنائية الشريعة والطريقة.
قصة موسى والخضر تمثل للاتجاه الصوفي التكأة الكبرى في فكرته. إذ يتحدث أهل التصوف عن ثنائية موسى والخضر، وثنائية الشريعة والطريقة
فموسى عليه السلام يمثل الأنبياء بشرائعهم التي أرسلها الله لهم بالوحي المباشر، ويأخذها الناس من بعدهم بالنصوص التي يتركونها (النص الإلهي والنص النبوي)، وبالمنهج العملي والسلوكي الذي يرويه الراوون عنهم.
والخضر يمثل الأولياء، الذين يتلقون عن الله عز وجل مباشرة عن طريق الإلهام والرؤى، أو عن طريق الشهود والتلقي المباشر عن الله بغير واسطة الوحي.
وهذه الفكرة التي يعتمد عليها أهل التصوف هي فكرة صحيحة، وقصة الخضر تشير إليها حقاً، وذلك على الرأي الذي لا يرى الخضر نبياً، وإنما يراه ولياً صالحاً.
وبالتالي فهناك طريقان للوصول إلى الله عز وجل، طريق الشريعة وطريق الطريقة.
فأما طريق الشريعة فهو طريق الأنبياء الذي ارتضاه الله لعموم الناس، وخلق الحياة كلها من أجله، وأرسل لذلك الأنبياء تباعاً، من آدم عليه السلام النبي الأول، إلى محمد عليه السلام النبي الخاتم، في سلسلة من آلاف الأنبياء، لم يترك الله أمة واحدة من الأمم إلا وأرسل لها نبياً منهم، قال تعالى: {إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} [فاطر:24].
أما طريق (الطريقة) فهو طريق لا بد أولا أن يُبنى على شريعة الأنبياء، ثم يكون بعد ذلك الترقي بالطريقة، التي تؤخذ من شيوخها الذين أخذوها عن شيوخهم، وهكذا في سلسة الأخذ والتلقي إلى الشيخ الأول، والذي يكون قد أخذ طريقته وسلك طريقه بالإلهام من الله بعد الاجتهاد الكبير في العبادة والذكر والاتصال به تعالى حتى الفناء فيه والتلقي المباشر عنه، كما كان في حالة الخضر قديماً.
تشبه حالة التصوف في التاريخ الإسلامي الرهبنة التي كانت في التاريخ النصراني، فكلاهما حركة انقطاع لله بالكلّية، والزهد في الدنيا بكليتها، وأخذ النفس بالعبادة الدائمة والذكر الدائم، حتى تحدث حالة خاصة من العلاقة بالله ، علاقة ليست لعموم الناس، ولا يستطيع أن يصل لها عموم الناس.والرهبانية لم يكتبها الله على بني إسرائيل، ولم تكن مرادا لله فيهم، قال تعالى {..ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها} [الحديد:27].
ليس مرادا لله في خلقه أن ينقطعوا له بالكلية، فيختصموا مع دنياهم، ويعتكفوا في مساجدهم وكنائسهم ومعابدهم، أو يهيموا على وجوههم في الأرض، ولا تكون لهم إلا العبادة الدائمة والذكر الدائم، دون القيام بواجبات الدنيا ولوازمها وحقوقها.
ليس مرادا لله في خلقه أن ينقطعوا له بالكلية، فيختصموا مع دنياهم، ويعتكفوا في مساجدهم وكنائسهم ومعابدهم، أو يهيموا على وجوههم في الأرض، ولا تكون لهم إلا العبادة الدائمة والذكر الدائم، دون القيام بواجبات الدنيا ولوازمها وحقوقها
لقد خلق الله الناس لتعمير الأرض والقيام بواجب الاستخلاف فيها، ولو انقطع الناس جميعاً عن ذلك، وزهدوا في الدنيا بكليتها، لفسدت الأرض وانتهت الحياة.
لا بد من العمل واكتساب الرزق من أجل الحياة، ولا بد من التزاوج والإنجاب لدوام الحياة، ولا بد من الحياة في مجتمعات تقوم بينها العلائق والروابط، لتسير كل حركة التعمير هذه بعد ذلك على مراد الله وتشريعاته، وهي تشريعات كثيرة ومتنوعة وشاملة.
الله عز وجل أرسل الأنبياء برسالته وشريعته التي ارتضاها للحياة وللناس جميعاً، وأمر الناس بعبادته ولم يأمرهم بالانقطاع لها، وأمرهم بالزهد في الدنيا عن طريق التقلل منها ما أمكن لا عن طريق تركها بالكلية، وأمرهم كذلك بذكره واستحضاره ولم يأمرهم بالفناء فيه ولا بالاتحاد معه.
و ما أحدثه الناس بعد ذلك في الحركة الصوفية من انقطاع لعبادة الله بالكلية وترك الدنيا بالكلية والفناء في الله والتوحد معه أو توهم ذلك، كل ذلك لم يأمرهم الله به، ولم يشرعه لهم ، وهم الذين ابتدعوه، غير أن الله يقبله منهم كما قبل الرهبانية من قبل.
لم يفن الأنبياء بالكلية عن الحياة ولم يشرع الله لهم ذلك وهم خير البشر الذين اصطفاهم الله من بين خلقه، وإن كان الله قد دلّ موسى على الخضر ليتعلم منه بعض العلم اللدنّي الذي لم يعلّمه لموسى، فليس معنى ذلك أن الخضر كان أفضل عند الله من موسى، بل إن الذي ليس عليه خلاف، تفضيل موسى على الخضر، فالنبوة مفضلة على الولاية، إلا أن يكون الخضر قد كان نبياً، وهو رأي الكثير من العلماء.
وكذلك لم يسْعَ الأنبياء للشهود التام لله، ولا للاتحاد معه والفناء فيه، ولم يُرد الله منهم ذلك.
فالشهود التام لله لن يكون إلا في الآخرة، وقد منعه الله في الدنيا عن عباده، ولذلك فإن أولئك الفانين والمتحدين قد اختلت عقولهم وهذت ألسنتهم، فلم يقدروا على الحياة والاتزان فيها مع ما أصابهم من بعض هذا الشهود وبعض هذا الاتحاد.
الله عز وجل خلقنا في الحياة الدنيا لنراه رأي العلم به واليقين فيه لا رأي العين، ولنتصل به اتصال المؤمنين به الراغبين فيه العائذين منه لا اتصال المتوحدين معه.
لقد تكلّف أقطاب الصوفية الكبار ما لم يطيقوا، وما لا يطيقه أي بشر، وخصوصا الذين ذهلوا منهم عن أنفسهم وتاهت عقولهم فيما أوغلوا فيه كالحلاج وغيره.
آخر طريق التصوف شهود وذهول وفناء وتوحد لم يخلقنا الله لأجله ولم يرده منا، بل هي أحوال تفسد على الإنسان حياته الدنيا وتفسد رسالته فيها.
التصوف طريقة للتربية ومجاهدة النفس والعبادة والذكر والترقي في رحلة الوصول إلى الله، لكنها طريقة لا بد أن تُقيّد بقيود وتُحدّ بحدود حتى تكون طريقة مشروعة يجوز انتهاجها وتعليمها وتلقينها للناس.
التصوف طريقة للتربية ومجاهدة النفس والعبادة والذكر والترقي في رحلة الوصول إلى الله، لكنها طريقة لا بد أن تُقيّد بقيود وتُحدّ بحدود حتى تكون طريقة مشروعة يجوز انتهاجها وتعليمها وتلقينها للناس
وذلك أن تكون أولا منطلقة من الشريعة لا تخرج عن حدودها وتوجيهاتها في كل صغيرة وكبيرة.
وأن لا يوغل السالك في متاهاتها من الفناء والتوحد والغياب والشهود، وأن لا يتكلف فيها ما لا يطيقه، ولا يسعى إليه.
ويكون النبي صلى الله عليه وسلم هو قدوته الأولى وشيخه الأول وقطبه الأكبر.
النبي الذي كان أزهد الناس في الدنيا ولم يفن عنها، وكان أقرب الناس من ربه ولم يتحد معه، وكان أعلم الناس بربه ولم يره بعينه، وكان أعبد الناس لربه وأذكرهم له، وكان أكمل الناس عقلا وأكثرهم اتزانا وحكمة، صلى الله عليه وسلم.