هناك الكثير من الأمور التي يأخذها البعض على أنها حقائق مسلَّم بها، ونادرًا ما يُنظر في استثناءاتها رغم كثرتها، إحداها ما يتعلق بمعتقداتنا وأفكارنا تجاه الأمهات، فحين يرد ذكر الأم في أي سياق يسارع الكل بالدعاء ومباركة الأم، وحثّ الأبناء على برَّها، وهذا لا ريب أمر محمود ومطلوب وديننا يدعو إليه، ولكن في الوقت ذاته، أن يقوم المجتمع بالتغافل عن شريحة كبيرة من الأمهات غير السويات عقليًا أو نفسيًا، أو غير المنصفات مع أبنائهن، فهي قضية تستحق منا إعادة النظر فيها.
فقد نشأت العديد من الأجيال المهدمة نفسيًا وعاطفيًا؛ بسبب أم قاسية جاهلة لا تحسن التربية، ولا نملك كمجتمع إلا أن نقول لهؤلاء الأبناء المعذَّبين حين يكبرون: "هي أمك ويجب عليك بِرُّها"، وسنكون مع ذلك على صواب، ولكن الظلم ما يزال واقعًا، وهنا عرض لأبرز الأمثلة -غير السوية- في المجتمع، وبعض الحلول المقترحة للتعامل معها:
1- أمهات بلا رحمة:
قطعًا من أبرز الأمثلة على قسوة الأمهات، هو عمليات الضرب والتعذيب التي تقوم بها العديد من الأمهات ، وللأسف، تؤمن الكثيرات منهن بأنها "حرة" في التصرّف مع أولادها، وباتخاذ أسلوب التربية الذي ترتئيه "هي" صحيحًا، حتى وإن رأى الدين والمجتمع عكس ذلك، والحل كما تمّ في معظم الحالات هو عمل شكوى فيهم إن لم تردع بالنصح.
ففي الولايات المتحدة مثلًا، يحق لأي شخص -متضمنًا الطفل المتضرر نفسه- أن يشكو رسميًا أي شخص يتعرض لأي شخص أو طفل بضرر بدني أو نفسي، وإن كان المُتسبِّب بالأذى من الأهل، وإن كان الشخص المشتكي غير متأكد، فإن مركز الرعاية يقوم بإرسال مسؤول للتحري عن الأمر، ثم إذا ثبت الأمر، فإن ولي الأمر المسؤول يتعرض للمساءلة القانونية، وربما للمحاكمة، ويمنع من رؤية أطفاله (بالكلية أو معظم الأيام حسب الحالة).
وقد حكت الكثير من الأمهات -سواء في الغرب أو العالم العربي- لتلك المساءلات، وكانت سببًا من حرمانهن لأبنائهن لأجل غير مسمى، وتعرضهن للعقوبة، بالإضافة إلى العلاج النفسي.
2- منع البنات من التعليم والإجبار على الزواج:
حين يكون الحديث عن حرمان البنات من التعليم وإجبارهن على الزواج المبكر -زواج القاصرات- كثيرًا ما تتجه أصابع اللوم تجاه الآباء، ولكن الحقيقة أن الكثير من الأمهات يكنّ سببًا من حرمان بناتهن من التعليم، وتمييزهن في المعاملة عن الأولاد، وإجبارهن على الزواج المبكر .
فبعض الأمهات أقررن بأنهن يمنعن بناتهن من التعليم بحجة الخوف عليهم من الوقوع في الفتن، والتعرف على الشباب! وكأن عالم اليوم ليس مفتوحًا كفاية، بحيث يمكنهن التعرف من خلال الإنترنت بكل سهولة ويسر! ونحن هنا لسنا بصدد مناقشة كفاءة التعليم، ولا أهلية المدارس أو جودة التعليم المنزلي، وإنما نحن بصدد إقرار حق الفتيات في اختيار نوع التعليم الذي يناسبهن، ولا يسبب الضرر لهن، مع إشراكهن في الاختيار ووضع الضوابط اللازمة.
كذلك فإن بعض الأمهات من الأسف تجدها تستغل براءة الطفولة وطيبة قلوب بناتهن القاصرات، فتقنع إحداهن ابنتها أن زواجها هذا سيسعد أهلها -سيما إذا كان الزواج سيؤدي لاستقرار الأسرة المادي، أو يقارب بين العائلات وما إلى ذلك- كذلك بعض الأمهات مع الأسف تجدهنّ ما زلن يعشن في عصور الجهالة، ويميزن في المعاملة بين أولادهن وبناتهن ، ويرين أن بناتهن عبارة عن "همّ" يحملنه حتى تكبر وتتزوج وينزاح "الهم"، وتصير مسؤولة من إنسان آخر، ويعاملن أولادهن في المقابل معاملة أرقى وأفضل.
وإذا علقنا واستفضنا في الشرح عن أمثلة الأمهات اللاتي لا يستحققن اللقب، وإنما نلنه لمجرد مرورهن بمرحلة الحمل والإنجاب والإرضاع، فإننا لن نفرغ عن الحديث أبدًا، وربما تكون أحدث واقعة هي الحادثة التي جرت مؤخرًا في القاهرة، وعُرفت بـ "طفل البلكونة"، حيث أجبرت الأم ولدها على القفز من شباك العمارة إلى الشرفة من ارتفاع شاهق، وذلك لجلب مفتاح المنزل، وسط استغاثة الطفل واعتراض الجيران!
وإنما كان الغرض هو عرض بعض الأمثلة عن الأمومة "القاصرة" في مجتمعاتنا، حتى نواجهها بقدر ما نستطيع، ونكف عن إعطاء كل الأمهات "وسام الأمومة" لمجرد إنجابهن للأطفال، فالوسام الحقيقي يجب أن يُعطى لكل أمّ تربي وتعلم وترعى وتحب وتهتم وتنصف في تربية أبنائها وبناتها.
الوسام الحقيقي يجب أن يُعطى لكل أمّ تربي وتعلم وترعى وتحب وتهتم وتنصف في تربية أبنائها وبناتها
والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال حين رأى أمًا قد عثرت لتوها على ابنها في السبي، فأخذته وأرضعته، قال عليه الصلاة والسلام حينها للصحابة رضوان الله عليهم: (أترون هذه المرأة طارحةً ولدها في النار؟)، قلنا: "لا والله"، فقال: (الله أرحم بعباده من هذه بولدها) (متفق عليه)، والحقيقة أننا حين نقرأ ذلك الحديث، ونقول في أنفسنا إنه ليس هناك أرحم من الأمهات على الإنسان بعد الله، ثم نرى أمثال تلك الأمهات التي استحكمت القسوة قلوبهن، ونتساءل بسببهن عن ماهية الأمومة، وندعو الله في أعماقنا أن يكون هذا النوع من الأمهات هو الاستثناء عن القاعدة، فلو كانت القاعدة لهلكنا وهلكنَ وهلك أطفالهن!