تصلني الكثير من الشكاوي والاستشارات في شأن اختيار شريك الحياة -من شباب وفتيات الوسط المتدين خاصة- عن "جواز النظر في معايير دنيوية عند الاختيار خاصة إذا تعارض نقص مطلوب دنيوي مع استقامة المعايير الدينية"، وفيما يلي تنبيهات في هذا الشأن من خلاصات تلك المسائل:
يجب على كل مسلم ومسلمة ألا يفكر –أدنى تفكير– في شأن الزواج إلا بعد العلم به على المستوى الفقهي كبداية، وكل القراءات الثقافية العامة في اختيار الشريك هي محاولات بائسة ومختزلة لتكوين تصوّر ينبغي أن يصلح أساسًا لاتخاذ القرارات، فأي تصوّر للمسلم لا بدّ أن يقوم أول ما يقوم على فهم أحكام الديانة في المسألة أولاً، ثم تكون التكميلات الأخرى (وهي كذلك ضرورية لكنها تالية لا سابقة)؛ لأن التصوّر الشرعي الصحيح هو الذي يوجّه المسلم لما يباح أو يجب رفضه أو قبوله من تلك الثقافيات، وهو الذي يرسم الحد الفاصل بين الواجب والفضل والتفريط في المعاملات والحقوق.
وبسبب الجهل بفقه الديانة عامة والنكاح خاصة، تجد أغلب تطلعات المتدينين في مؤسسة الزواج ليست هي المقاصد الشرعية ولا المنافع الأساسية التي لأجلها شُرع النكاح ، بل تلك التطلعات أثر استمداد أحكام الشرع من الأشرطة الدعوية، ذات التأويلات "العصرية" العجيبة لقصاصات مجتزأة من سير السلف، والشعارات الرومانسية بالنكهة الإسلامية: "كوني لي خديجة"، "كن لي صحابياً"، "خذ بيدي للجنة"، و"خذي بيدي للسماوات".
بسبب الجهل بفقه الديانة عامة والنكاح خاصة، تجد أغلب تطلعات المتدينين في مؤسسة الزواج، ليست هي المقاصد الشرعية، ولا المنافع الأساسية التي لأجلها شُرع النكاح
فيقع التلبيس على الأطراف حين تتحقق في الخاطب أو المخطوبة المعايير التدينية (وهي غير الدينية أو الشرعية بالمناسبة) لكن عوامل الانجذاب أو الاشتهاء أو الميل أو القبول أو مجرد عدم النفور (النفسي/البدني) منه أو منها غير متحققة! فكيف يعقل أن ترفض البنت من يقوم الليل لخبث رائحته؟! وكيف يقبل من الشاب رفض بنت كاملة الحجاب إذا كانت هزيلة البنية؟! والشواهد من سير السلف في الرفض والقبول لمختلف المعايير أكثر من أن تحصى، ويُرجع لها في الأصول المحترمة لا في رسائل الواتس واقتباسات الفيس!
يتفرّع عن تشوّه المنظومة الفكرية والفقهية لدى غالب التعامل الفجّ مع منظومة الشهوة، والاعتقاد الخائب بأن تدين الإنسان يسلخه من شهواته، ويحرّج عليه الكلام في ذلك الجانب الطيني القذر! وينشأ عن هذا طرفا نقيض يقومان على فصم معايير المتعة عن معايير العشرة عند الاختيار، فإما أن ينظر المقبل على الزواج لمقومات العشرة فحسب، ولا يحقّ له التطلع لمقومات المتعة بالآخر -كما سبق-، أو النقيض من ذلك الذي يرى أن الزواج لتحليل الاستمتاع الشهواني، فلا مانع من انعدام الدين والخلق أو هشاشتهما طالما وجدت مقومات المتعة.
والرد الموجز في هذا المقام أنه لا داعي -من أي نوع- للتحرج الأجوف الذي يسود وسط "الملتزمين" من الإفصاح عن أو التطلع لمواصفات فيزيائية في الزوج أو الزوجة، ولا للخجل من البيان عن حاجات الشهوة في مقام جُعِل لتصريف الاشتهاء بالحلال! وإذا كان التعريف الفقهي للنكاح أنه "عقد على التأبيد"، فليست المتعة وحدها ما يؤبّد اثنين في علاقة، بل ههنا يتدخل مفهوم طيب العشرة، والمعايير التي كان ينبغي وضعها في الحسبان من البداية، ليمكن تحقيقها بينهما، وقس على هذا الطرف النقيض الذي يهدّ مقوّمات الاستمتاع من معايير بناء الزيجة السوّية، علما بأن العشرة لا تطيب حقيقة بفساده!
لا داعي -من أي نوع- للتحرج الأجوف الذي يسود وسط "الملتزمين" من الإفصاح أو التطلع لمواصفات فيزيائية في الزوج أو الزوجة، ولا للخجل من البيان عن حاجات الشهوة في مقام جُعِل لتصريف الاشتهاء بالحلال
وأما فيما يتعلق بمعايير الناس وكلامهم، فعلى الأطراف المعنيّة بالعلاقة تعارفًا أو خِطبة، صمّ الآذان تماماً –وأعني تماماً– عن التشرّب الإسفنجي لتعليقات الأهل والجيران والمتابعين والخِلّان، وإفتاءاتهم البديعة وتعقيباتهم الخلاّقة، والتوجه لطلب المشورة أو الفتوى من مظانّها الصحيحة الموثوقة فحسب، أما منطق "الناس يتكلمون"، "من حولي يقولون"، "أسمع من الناس..."، "أحس من كلام الجيران..."، وذلك التشتت الأبله بين الآراء، فهو ثمرة شخصية سطحية لا رسوخ فيها في داخلها ولا أسس تقيم عليها موازينها، فالناس أبداً سيتكلمون، وأبداً ستختلف آراؤهم وتتناقض فتاواهم، ولا ينضب معينهم من تأويلاتهم القرآنية الفاتكة، والإسقاطات الخارقة لأفهامهم على القصص والأحاديث المجتزأة من سياقاتها، وأحياناً غير الثابتة أو الصحيحة، فما لم يحرص كل فرد على بناء أصول مرجعيته لنفسه، فلا يلومنّ إلا نفسه .
لا تطلب النصح طلب من يبحث عن شماعة يلقي عليها بلائمة تبعات القرار، ولا تكثر من مراجعة الناصحين تبركًا بتعدد النصائح
من جهة أخرى، لا يمكن ولا يحق لأي ناصح أن يشير على صاحب الأمر بـ "القرار"، وغاية ما يقدمه الناصح ذو الأهلية معالم للتفكير وأسس لاتخاذ القرار، فإن أشار برأي عملي كأن يقول: "لو كنت مكانك لفعلت كذا"، لا تأخذ النصف الثاني من الجملة وتطبقه ناسياً النصف الأول! في النهاية هو ليس مكانك على الحقيقة، وإن ارتضيتَ رؤيته واستصوبتَ القرار الذي كان ليطبقه، تظل مسؤوليتك عن ذلك القرار في سياقك متعلقة بك وحدك، فلا تطلب النصح طلبَ من يبحث عن شماعة يلقي عليها بلائمة تبعات القرار، ولا تكثر من مراجعة الناصحين تبركًا بتعدد النصائح، بل ذلك باب تشتت لا بد أن تحسمه في النهاية من وجهة ما، فحدد من تستشيره على أساس صحة العلم وعمق الثقة وحسن التفهم.
وفي الختام، إن رأس النجاح في الاختيار، وفي كل أمر في الحياة، هو أن تتقي الله في نفسك أولًا، وتأخذها بالتفهم والجدية والحزم معًا ، وانظر فيما يترتب عليك من مسؤوليات كما تنظر فيما يترتب لك من حقوق، وليركّز كل في قصته الخاصة وشأنه الخاص، ويستعن بالله تعالى ويستخره في كل أمره.