عندما أعادت قريشُ بناء الكعبة ووصلت إلى مرحلة وضع الحجر الأسود في مكانه، اختلفت القبائل في ما بينها حول مَن يُسَجّلُ باسمه الإنجاز.
توقّف العمل، وتعطّل المشروع، وتنامى التّنازع والاختلاف، وكاد الأمرُ يصلُ إلى الاقتتال لولا أن تدخّل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأشار عليهم بوضع الحجر في ثوبٍ تمسكُ كلّ قبيلةٍ من طرفه، ويشتركون معا في تحقيق هذا الإنجاز ووضع الحجر الأسود مكانه.
كم هي الإنجازاتُ التي تعطّلت؟ وكم هي المشاريعُ التي توقّفت؟ وكم هي الاختلافاتُ التي تنامَت وتعاظَمت بين الكيانات والجماعات والتّنظيمات والتيارات القائمة حول من يسجّل باسمه الإنجاز؟! بل كم المشاريع التي تمّ إفشالُها وتعطيلُها داخل الجماعة الواحدة والتيّار الواحد والكيان الواحد لأجل مَن يسجَّل باسمه الإنجاز؟!!
الماركة المسجّلة
المفكّرون وأصحاب العقائد كلّ سعادتهم في أن يتقاسَم النّاس أفكارَهم وعقائدَهم ويؤمنوا بها إلى حدِّ أن ينسبوها لأنفسِهم لا إلى أصحابها الأولين!
"التّجار وحدَهم هم الذين يحرصون على العلامات التجاريّة لبضائعهم كي لا يستغلّها الآخرون، ويسلبوهم حقّهم من الرّبح، أمّا المفكّرون وأصحاب العقائد فكلّ سعادتهم في أن يتقاسَم النّاس أفكارَهم وعقائدَهم ويؤمنوا بها إلى حدِّ أن ينسبوها لأنفسِهم لا إلى أصحابها الأولين! إنهم لا يعتقدون أنّهم أصحاب هذه الأفكار والعقائد، وإنّما هم مجرّد وسطاء في نقلها وترجمتها، إنهم يحسّون أن النّبع الذي يستمدّون منه ليس من خَلقِهم، ولا من صنع أيديهم، وكلّ فرحهم المقدّس، إنّما هو ثمرة اطمئنانهم إلى أنّهم على اتصالٍ بهذا النّبع الأصيل".
بهذه الكلّمات صوّر سيّد قطب لبَّ المشكلة، ولئن كان قد تحدّث عن الأفكار والعقائد؛ فإنَّ مخرجاتِها، وهي الأفعال والمشاريع والبرامج، تنسحب عليها أكثر من غيرِها هذه المعارك الباردة والتّنافس غير الأخلاقيّ في سبيل العلامات التّجاريّة.
وهنا يكمن الفرق الكبير بين التّجار وأصحاب الرّسالات؛ فالتّجّار يخوضون معاركهم من أجل تحصيل الرّبح الذّاتي، بينما أصحاب الرّسالات همّهم هو الرّبح الجمعي الذي يصبّ في خدمة الغاية العظمى والأهداف الكبرى التي يشتركون فيها مع غيرهم، ويقيمون معاركَهم على هذا الأساس.
التّجّار يخوضون معاركهم من أجل تحصيل الرّبح الذّاتي، بينما أصحاب الرّسالات همّهم هو الرّبح الجمعي الذي يصبّ في خدمة الغاية العظمى والأهداف الكبرى
فإن رأيت من يحملُ رسالة سامية همّه تعطيل إنجاز الآخرين الذي يصبّ في خدمة هدفه، وذلك بغية أن يسجّل هذا الإنجاز لاحقا باسمه هو، أو حتّى يكون له قصب السّبق عند عرض الإنجازات والتّفاخر بها؛ فاعلم بأنّه قد داس رساليّته بتحوّله إلى التّجارة الرّخيصة الخاسرة.
بين توثيق الإنجازات وتعطيلها
من الضّروري جدّا أن يوثّق المرء أو المؤسّسة أو الكيان إنجازاته؛ ليكون قادرا على محاسبة نفسه ومعرفة مواطن الصواب والخلل في طريقه إلى تحقيق أهدافه وخدمة رسالته.
ومن حقّ المرء أو المؤسّسة أو الكيان أو الجماعة أو التيّار أن تُنسَب إنجازاته له، ويفرح بذلك، وهذه فطرةٌ في المرء لا يجادلُ فيها أحد، ولكن أن يتمّ تعطيل الإنجازات بسبب التّنافس فيمن يكون هذا الإنجاز باسمه ومنسوبا له؛ فهذه خطيئةٌ كبيرةٌ يُلبِسها أصحابها ثوب الغيرة على العمل والرّسالة والمشروع لإيهام أنفسهم بحسن القصد وسلامة السّلوك القبيح.
وهذا السّلوك بشعٌ للغاية في تعامل الكيانات والجماعات والتيارات فيما بينها؛ ولكنّه يكون أبشع وأخطر بكثيرٍ حين يتسرّبُ إلى داخل الجماعة الواحدة والتيّار الواحد؛ فتجتهدُ مؤسّسةٌ في تعطيل إنجازات مؤسّسات أخرى من الجماعة ذاتها أو التيّار نفسه لأنّ الإنجاز سيسجّل باسم غيرها، وهذا حين يقع يكون نذيرَ شرٍّ يجب تداركه قبل أن يعصف بهذه الجماعة ما لا يحمد عقباه من التشقّق الذي يزداد عبر الزّمن في غفلةٍ عن أهلها.
من الأهميّة بمكان أن يقتنع الإسلاميّون على اختلاف تياراتهم وكياناتهم وجماعاتهم وفصائلهم بأنّ الإنجازات الكبرى تتحقّق حين يمسك الجميع بأطراف الثّوب
الإمساك بأطراف الثّوب
من الأهميّة بمكان أن يقتنع الإسلاميّون على اختلاف تياراتهم وكياناتهم وجماعاتهم وفصائلهم بأنّ الإنجازات الكبرى تتحقّق حين يمسك الجميع بأطراف الثّوب، كما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين فعل مع قريش يوم بناء الكعبة.
ومن الضّرورة بمكان أن يؤمنوا بأنّ الوصول إلى هذه القناعة يحتاج نفوسا كبيرة وقلوبا واسعة وعقولا رحبة، والخروج من ضيق الأنا المؤسسية والحزبية إلى سعة الرسالة. فإن لم يكن، فلا أقلّ من ألّا يخسروا بعضهم، وألّا يوقفوا العمل ويعطّلوا المشاريع ويُفشِلوا البرامج من أجل مَن يُسَجَّل باسمه الإنجاز.
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- عربي 21