إن الأمم ــ حسب سنن الله تعالى ـــ يصيبها الضعف والفشل والتنازع، فإذا استمرت على هذه الحالات أدت بها إلى الانتهاء، وتجديد أمة أخرى لتحل محلها {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}، وهذا هو المشاهد من خلال قراءة تاريخ الأمم السابقة، مثل الرومانية والإغريقية والفارسية والساسانية، حيث كانت ترفل في القوة، ثم تنازعت فأصابها الوهن، ثم أصبحت في التاريخ كأنها لم تكن بالأمس، وانتهت.
غير أن الأمة الإسلامية ــ أمة العقيدة والفكر والرسالة ــ لا تنتهي، ولكن الشعوب والأقوام هي التي تتبدل {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}؛ لأن الله تعالى هيأ هذه الأمة للتمكين في الأرض من خلال جعلها خير أمة أخرجت للناس بما وهبها من صفات، وليس بما تحوي من أعراق وجنسيات، وهذه الصفات هي التي تعطي للأمة الإسلامية البقاء وتضمن لها الاستمرار.
ولكن أتباع هذا الدين من عرب ومن عجم، ومن بدو وحاضرة، وعرب وترك وكرد وأمازيغ وغيرها من الأطياف التي تشكل الأمة الإسلامية، وتحمل هذه الرسالة قد تتبدل، فبقاء الرسالة واستبدال أتباعها من خصوصية هذا الدين وهذه الأمة، وهي التي توقد في المسلم الأمل الكبير بأن الأمة قد تضعف، ولكنها لا تموت أبداً.
في الوقت ذاته تضع المسؤولية على عاتق العلماء والمصلحين والمفكرين؛ ليقوموا بواجب الإصلاح، ويلموا شعث الأمة، فإن الأمة الضعيفة المتفرقة الممزقة لا تكون خير أمة.
ومن هنا يتجلى دور الإصلاح بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ، وهي رسالة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقد حصر سيدنا شعيب عليه السلام رسالته كلها في الإصلاح، حكى الله تعالى عنه قوله {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}
الإصلاح يراد به إصلاح الفرد والجماعة والمجتمع والأمة، ومن جانب آخر يراد به الإصلاح الداخلي والخارجي، ويراد به أيضاً إصلاح الفكر والتصور والسياسة والاجتماع والتعليم والاقتصاد، وغير ذلك من جوانب الإصلاح.
والإصلاح هو الوصول إلى درء المفسدة والمضرة والخبث عن الفرد والجماعة والأمة، وتحقيق المصالح والمنافع والطيبات لكل إنسان.
فالإصلاح هم المقاصد التي يتبناها الإسلام، سوءا كانت هذه الإصلاحات ضرورة أو حاجة أو استحساناً.
نتحدث اليوم عن إصلاح الفرد؛ لأنه هو النواة للأسرة، والأسرة هي اللبنة الأولى في المجتمع، ومن المجتمع يتخرج القادة والمفكرون والعلماء والسياسيون والإصلاحيون، فإذا صلح الفرد صلحت الأسرة، وإذا صلحت الأسرة صلح المجتمع، وإذا صلح المجتمع تولى أمرها قادة إصلاحيون وعلماء ومفكرون ربانيون.
وقد أولى القرآن الكريم عناية قصوى بهذه الإصلاحات، لأن هذه الإصلاحات يضمن لها التمكين في الأرض، ويمنحها الخيرية المطلقة، وتكون بذلك قدوة لبقية أمم الأرض وشعوبها، ولا تُلخص عملية الإصلاح في الخطب والمواعظ، وإنما تحتاج إلى برامج وأدوات ومناهج وتصورات، حتى يصلح الفرد والجماعة.
وعلى سبيل المثال أذكر لكم ما مرت به أوربا من مراحل الإصلاح حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم، حيث كانت تعيش في ظلام دامس وخرافة وجهل وابتزاز واستبداد ودكتاتورية، حتى ظهر فيها جيل العلماء والمفكرين والإصلاحيين، واتخذوا الإصلاح منهجاً، وخططوا لإصلاح النظام السياسي والتعليمي والديني، وربوا الأفراد على ذلك، فصلح الفرد وصلحت مجتمعات أوروبا، حتى أصبحت قدوة لقارات العالم، ووصلت إلى الدنيا من خلال الثورة الصناعية الكبرى، ثم ثورة التكنولوجيا والعلوم، تم ذلك خلال200 سنة، ثم استغلت أوروبا نهضتها في استعمار أمم الأرض، كما لا يخفى ذلك على أحد.
والدرس المستفاد من هذه التجربة أن الأمة الإسلامية لا يمكن أن تنهض إلا إذا وجهت اهتمامها في الإصلاح إلى النظام السياسي والتعليمي والاجتهادي، من خلال التصورات والأفكار التي تواكب العصر وترتبط بالأصل الصحيح المعتبر.
لا يمكن أن تنهض الأمة الإسلامية إلا إذا وجهت اهتمامها في الإصلاح إلى النظام السياسي والتعليمي والاجتهادي، من خلال التصورات والأفكار التي تواكب العصر وترتبط بالأصل الصحيح المعتبر
يجب أن نقدم إصلاح الفرد ونهتم به، ومن خلاله يتوجه الإصلاح إلى المجتمع، وأول جانب يولى عناية به هو الجانب الداخلي، وقد جعل الله تعالى من أهم وظائف الرسول صلى الله عليه وسلم التوجه نحو إصلاح الفرد داخلياً، حيث عبر القرآن الكريم عن ذلك في كثير من الآيات، منها قوله تعالى:{ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}، حيث تشمل هذه الآية الإصلاحات الداخلية والخارجية للإنسان.
في داخل الإنسان أربع قوىً أساسية، قد يعبر عنها بكلمة واحدة، وقد يعبر عنها بأربع كلمات، وهي الروح التي هي نفخة من روح الله تعالى{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}، فالروح التي نحملها هي من روح الله تعالى، وهي التي تحمل عن الله تعالى الصفات، ومنها العلم، غير أن علم الله تعالى واسع غير منتهٍ ولا حدود له، وعلمنا جزئي قابل للتطور والاجتهاد، وكذلك صفات الإرادة والاختيار، وكل الصفات الإيجابية، وبهذه النفخة امتاز الإنسان عن غيره من المخلوقات، إذ هي مسخرة كوناً وقدراً، والإنسان مسخر كذلك مع شيء من الاختيار.
يجب أن يصلح الجانب الروحي في الإنسان، حتى تكون روح الإنسان عالية شامخة؛ لأنها من عند الله تعالى، ولا يجوز للإنسان أن يذل نفسه ويهين روحه لأي سبب.
فإذا أصاب الروحَ مرضُ الذل انخفضت الروح وسخرت كل الصفات لإذلاله في مقابل مال أو جاه، وإذا فقد الإنسان كرامته وعزته انتهت حياته.
بالعزة يقاوم الإنسان، وبالعزة والكرامة يصول مع الحق ويجول به، ويناشده ويطلبه، ويرفض المذلة ولو ضحى في سبيل عزته بنفسه وجاد بروحه، وهذا لا يعني أن يتصف المرء بالتكبر والاستعلاء.
إذا عاش الإنسان على العزة وتربى على الكرامة صلح الجانب السياسي في المجتمع؛ لأن النظام السياسي قائم على الاستبداد، معتمد على إذلال الإنسان {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ}، والمسلم حين يعيش على مبدأ" لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" يكون عزيزاً، حراً، كريماً، موفور الكرامة، مهاب الجانب، لا يجرؤ أحد على الاستخفاف به.
عزة الإنسان تكبح جماح السياسيين فلا يطغون ولا يستذلون؛ لأنهم يعلمون أنهم سيواجهون بالعزة والروح العالية.
الإسلام يريد من هذه الأمة أن تتمتع بروح عالية وعزة وكرامة، وقد عبر عن ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيما يُنسب إليه:
إذا أظمأتك أكفُّ الرجال كَفَتْك القَناعَةُ شَبْعاً وَرِيّا
فَكُنْ رَجُلاً رِجْلُهُ في الثَرَى وهامة همّته في الثريا
أبياً لنائل ذي ثروة ٍ تَراهُ لِمَا في يَدَيْهِ أَبيّا
فَإِنَّ إِراقَة َ ماءِ الحَياة ِ دون إراقة ماء المحيا
كما عبر الإمام الشافعي أيضاً عن حالته التي كان عليها من حيث الفقر والمظهر والملبس، وما يتمتع به من عزة نفس وكرامة، وذلك في قوله:
عَلَيَّ ثِيابٌ لَو تُباعُ جَميعُها بِفَلسٍ لَكانَ الفَلسُ مِنهُنَّ أَكثَرا
فيهِنَّ نَفسٌ لَو تُقاسُ بِبَعضِها نُفوسُ الوَرى كانَت أَجَلَّ وَأَكبَرا
ما ضَرَّ نَصلَ السَيفِ إِخلاقُ غِمدِهِ إِذا كانَ عَضباً حَيثُ وَجَّهتَهُ فَرى
هكذا تسمو الروح وتكون عالية غير هابطة.
إن مما يوجب تربية الروح والعلو بها ما يعيشه العالم العربي والإسلام من مشاكل واضطرابات، وما يمارس عليه من الظلم والاضطهاد، على أيدي ثلة مسلمة، غير أنها لا تملك إلا تنفيذ إرادة الطغاة والمستبدين، ويستغل الإعلام الهابط المغرض ذلك فيسارع إلى إلصاق التهم بالإسلام، بينما الإعلام الحق يفرق بين ما يظلم ويقهر بصفته الاستبدادية المنفذة لحظوظ النفس، وبين الحق الذي جاء به الإسلام.
لذلك يجب أن يشمل الإصلاح الأفراد والجماعات والأمة حتى تعود الأمة إلى استلام عرش الوجود عزيزة كريمة، ترفض الذل وتأبى الهوان.
اللهم أصلح أحوالنا
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين