اتهمه البعض بأنه ماسوني تمّ غرسه في بلاد المسلمين في فجر الاستعمار الغربي لبلاد العرب بعد ضعف دولة الخلافة وتورطها في الحرب العالمية، بينما تبارت أقلام أخرى تدافع عن الرجل بأنه مؤسس الصحوة الإسلامية الحديثة، جاب العالم الإسلامي شرقاً وغرباً؛ ليحذر من الاستعمار، ويقدم فكراً تنويرياً جديداً لإنقاذ الأمة من حالة الانحدار الشديد في نهاية حكم العثمانيين، ليتلقف فكره من بعده الشيخ "محمد عبده" بمصر ويستكمله "محمد رشيد رضا" فحسن البنا رحمهم الله جميعاً، فمن هو "جمال الدين الأفغاني"، وماذا قدم لقضية التغيير؟
نبذة تاريخية عن عصر الشيخ الأفغاني:
تتباين سبل ووسائل التغيير المجتمعي والحضاري عند المفكرين باختلاف مشاربهم وثقافاتهم، والظروف المحيطة بهم، وحجم المشكلات العامة التي يواجهونها في حقبهم الحضارية المختلفة ، والأمة الإسلامية عربياً وعالمياً تعاني ظاهرة الانحطاط الحضاري منذ ضعف الدولة العثمانية.وأثناء انهيار آخر معقل لدولة الخلافة، اجتاح الاستعمار الأوروبي للدول الواهنة منطقة الشرق الأوسط، لتتفكك الدولة العظيمة وتعجز عن الدفاع عن ممتلكاتها، وتتركها نهبة لذلك الاستعمار، وفي تلك الأثناء ظهر الشيخ "جمال الدين الأفغاني" (1838م-1897م) في مرحلة تتسم بالضعف والتشرذم والجهل والانقسام والتخلف، كانت الشعوب المسلمة تعاني فيها بأس حكامها المتناحرين المنهزمين في المعارك المتناثرة لأمة تكاد تكون في حالة احتضار، استيقظ العالم الإسلامي فجأة على جيوش تحتل بلاده التي قسمت بين الدول الغربية ككعكة سهلة الهضم دون مقاومة تذكر من أمراء تشغلهم الضرائب، وتصفية بعضهم البعض أكثر مما يشغلهم المحتل واحتياجات شعوبهم!
أيضاً تحولت الفكرة الدينية لحالة من الصوفية العقيمة، وتحجّر الفكر، وتوقف الاجتهاد، وانشغل أهل الكلام بالسفسطة الفارغة، فصار الدين طقوساً لاهوتية تؤدّى بين جدران المساجد وحلقات وعبادة المقابر والأضرحة، وانفصم الدين عن الدولة، وانفصمت الشخصية المسلمة بين الدين المختزل بين جدران معابد، وبين الغربي الذي أتى من بلاده محتلاً يحمل معه العلم والقوة وحضارة لم يعلم عنها العربي شيئاً، نظراً لحالة الانغلاق الشديد الذي فرضته دول الخلافة في نهاية عهدها.
وبما أن الدين قد صار في ممارسات المسلمين مجرد عبادات لا تترجم لواقع حياة، فقد كان غريباً أن يأتي من يقوم بتغيير تلك الفكرة، وينادي بتفعيل الدين في الحياة ومقاومة الاستعمار، وتغيير نمط الحياة به، في الوقت الذي ينخلع فيه الغرب "المتحضر" من الدين، ولذلك فقد وجدت دعوة الشيخ صدىً في بلاد المسلمين التي كان يجوبها شرقاً وغرباً، لكنه صدى بطيء ومحدود، وتوقف عند الفكر المدون، ولم يصل حدّ الحراك المنظم حتى أتى من حمل الراية بعد تطوير الفكرة ومزجها بالحركة.
بما أن الدين قد صار في ممارسات المسلمين آنذاك مجرد عبادات لا تترجم لواقع حياة، فقد كان غريباً أن يأتي من يقوم بتغيير تلك الفكرة، وينادي بتفعيل الدين في الحياة ومقاومة الاستعمار، وتغيير نمط الحياة به
المشروع الإصلاحي عند الأفغاني:
اتسمت دعوة الأفغاني بإصلاح الدين والدنيا عن طريق أربعة محاور رئيسة، وضعها للإصلاح ونادى بها في أرجاء العالم الإسلامي.
أولاً- العودة إلى القرآن لإصلاح النفس. حيث كان يرى أن القاعدة الأساسية للإصلاح تتمثل بالقرآن الكريم، قائلاً: "القرآن من أكبر الوسائل في لفت نظر الإفرنج إلى حسن الإسلام، فهو يدعوهم بلسان حاله إليه، لكنهم يرون حالة المسلمين السوأى من خلال القرآن، فيقعدون عن اتباعه والإيمان به". فالقرآن وحده سبب الهداية وأساس الإصلاح، والسبيل إلى نهضة الأمة: "ومن مزايا القرآن أن العرب قبل إنزاله عليهم كانوا في حالة همجية لا توصف، فلم يمض عليهم قرن ونصف قرن حتى ملكوا عالم زمانهم، وفاقوا أمم الأرض سياسة وعلمًا وفلسفة وصناعة وتجارة... فالإصلاح الديني لا يقوم إلا على القرآن وحده أولاً، ثم فهمه فهمًا صحيحًا حرًا ، وذلك يكون بتهذيب علومنا الموصلة إليه، وتمهيد الطريق إليها، وتقريبها إلى أذهان متناوليها).
وفي تفصيل تلك النقطة يقول الدكتور "علي محي الدين القرة داغي" عن المنهج القرآني الذي وضعه الأفغاني: "قد ركّز الشيخ "جمال الدين" في اعتماده على القرآن على ثلاثة أمور تمثل منهجه في هذا المجال، وهي:
أ- بيان سنن الله تعالى في الخلق، ونظام الاجتماع البشري، وأسباب ترقي الأمم، وتدينها، وقوتها وضعفها.
ب- بيان أن الإسلام دين سيادة وسلطان، وجمع بين سعادة الدنيا، وسعادة الآخرة، ومقتضى ذلك أنه دين روحاني اجتماعي ومدني وعسكري، وأن القوة الحربية فيه لأجل المحافظة على الشريعة العادلة، والهداية العامة، وعزة الملة، لا لأجل الإكراه على الدين بالقوة.
ج- أن المسلمين ليس لهم جنسية إلاّ دينهم، فهم أخوة لا يجوز أن يفرقهم نسب، ولا لغة، ولا حكومة."
ثانياً- نظراً لتوقف الاجتهاد بما يلائم احتياجات الناس مع تقدم وتعقد نوع الحياة المعاصرة، فقد دعا الشيخ إلى إعادة روح التجديد الفقهي؛ لتلبية احتياجات الأمة، وتحريك الفكر وتصحيحه، ومحاربة البدع المنتشرة بالمجتمع، والتي جعلت من القبور مزارات دينية فأفسدت العقيدة والعبادة على حد سواء، ثم دعا إلى التبحر في العلم والإبداع والتوعية والفهم الصحيح لآيات الله المقروءة والمنظورة، والسعي في الأرض بمقتضي كلمة "اقرأ"، "وقل سيروا في الأرض" المأمور بها المسلم، وأخذ أحدث ما وصل إليه العلم لتحقيق معنى الخلافة في الأرض.
دعا الشيخ إلى إعادة روح التجديد الفقهي؛ لتلبية احتياجات الأمة، وتحريك الفكر وتصحيحه، ومحاربة البدع المنتشرة بالمجتمع، ثم دعا إلى التبحر في العلم والإبداع والتوعية والفهم الصحيح لآيات الله المقروءة والمنظورة
ثالثاً- الجامعة الإسلامية، بدل الجامعة العرقية، أو غيرها، وقد شغلت فكرة الجامعة الإسلامية الشيخ الأفغاني، فسعى بها بين الدول لتحقيق الوحدة التي تنبني على الفكر العقيدي لا اللغة ولا العرق ولا الجغرافيا، فتحرك من أفغانستان إلى ربوع العالم الإسلامي حتى الهند وتركيا ومصر، حيث يقول الأفغاني في مجلته "العروة الوثقى": "... لقد جمعت ما تفرق من الفكر، ولممت شعث التصور، ونظرت إلى الشرق وأهله، فاستوقفتني الأفغان، وهي أول أرض مسّ جسمي ترابها، ثم الهند، وفيها تثقف عقلي، فإيران بحكم الجوار والروابط، فجزيرة العرب، من حجاز هي مهبط الوحي، ومن يمن، ونجد، والعراق وبغداد وهارونها ومأمونها، والشام ودهاة الأمويين فيها، والأندلس وأمراؤها وما آل إليه أمرهم، فالشرق الشرق، فخصصت جهاز دماغي لتشخيص دائه، وتحري دوائه، فوجدت أقتل أدوائه داء انقسام أهله، وتشتت آرائهم، واختلافهم على الاتحاد، واتحادهم على الاختلاف، فعملت على توحيد كلمتهم وتنبيههم للخطر الغربي المحدق بهم".
وفي نفس الكتاب يحاول الشيخ تحديد داء الأمة والسبيل إلى إبراء هذا الداء، فيقول: "هل يمكن تعيين الدواء، إلا بعد الوقوف على أصل الداء وأسبابه الأولى والعوارض التي طرأت عليه؟ إن كان المرض في أمة، فكيف يمكن الوصول إلى علله وأسبابه إلا بعد معرفة عمرها وما اعتراها فيه من تنقل الأحوال وتنوع الأطوار؟ أيمكن لطبيب أن يعالج شخصاً بعينه، ويختار له العلاج، قبل أن يعرف ما عرض له من قبل فى حياته ليكون على بينة من حقيقة المرض؟".
ثم يصف دواء هذا المرض العضال فيقول: "فعلاجها الناجع إنما يكون برجوعها إلى قواعد دينها، والأخذ بأحكامه على ما كان في بدايته، وإرشاد العامة بمواعظه الوافية بتطهير القلوب، وتهذيب الأخلاق، وإيقاد نيران الغيرة، وجمع الكلمة، وبيع الأرواح لشرف الأمة".
والشيخ يعتمد الأسباب والوسائل والاجتهاد للخروج بالأمة من مأزقها، فالعقيدة والعبادة تحثان على العمل وبذل الجهد، واتخاذ كافة الأسباب، وبذل كل الاستطاعة للوصول للهدف المنشود وهو النهوض بالأمة، والعبور بها إلى مكانتها المنوطة بها، وقد أرسل الشيخ رسالة إلى السلطان عبد الحميد -آخر خليفة للمسلمين- بيّن فيها أسباب الوهن وكيفية الخروج منه.
والأفغاني يعتبر أول من دعا لوحدة المسلمين جميعاً كسنة وشيعة، وجعل مجلة "العروة الوثقى" التي أنشأها منبراً لدعوته التجميعية ، والتي عملت على محورين:
المحور الأول: تصحيح المفاهيم الإسلامية والعودة بها إلى منبعها الأول.
المحور الثاني: فضح الحكام الخونة والمتواطئين مع الاستعمار الذين خانوا شعوبهم ودينهم.
وبهذا، فإن التغيير الحضاري المنشود عن الأفغاني كان ينبني على العلم، والحرية، والتجديد الديني وتحرير الفكر والاجتهاد، والخطوة الكبرى التي كان ينشدها هي الجامعة الإسلامية الموحدة لكل المسلمين.
فهل تغيّر حال المسلمين منذ ذلك التاريخ حتى اليوم؟ هل استطاعت الحركة الإسلامية أن تقدم مشروعاً نهضوياً بعد تلك السنوات لجميع المسلمين عليه، والتحرر من ظلم الحكام الجاثمين على صدورها منذ حقب متوالية؟ هل هناك سبيل للخروج بالأمة من مأزقها؟ السؤال مطروح لكل مهتم بحال أمتنا المنكوبة، وللحديث بقية..