الثبات عند الشدائد والمحن ثمرة من ثمرات الإيمان؛ لأنه من مظاهر وسمات المؤمن المخلص الصبر والثبات على الشدائد احتساباً لوجه الله وإيماناً به جل وعلا. يقول الله تعالى: {.. وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج:34 و 35] ويقول تعالى: {ولنبولنكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين* الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون* أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المتهدون} [البقرة: 155-157].
وهو ما يؤكده قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعمله، فما يزال الله يبتليه بما يكره حتى يبلغها". (رواه ابن حبان وغيره).
ولا تخلو الحياة من الشدائد والابتلاءات، فهي كثيرة التكاليف، وقد تقع لتمحيص صف المؤمنين، وتمييزهم عن المنافقين، فما هي وسائل الثبات والصبر على هذه الشدائد والثبات على الدين والإيمان والثقة بوعد الله سبحانه وتعالى خاصة وأننا نعيش اليوم المحن والشدائد على مستوى الأمة الإسلامية حيث نزلت بهم الشدائد وحوصرت من الأعداء وسالت الدماء ودمرت ونُهبت الممتلكات واختلط فيها الحابل والنابل.
سنة الله في الارض
في هذا الإطار يقول الشيخ والداعية محمد العكلوك أن الابتلاءات والشدائد التي تصيب الناس كافة هي سنة الله تعالى منذ أن خلق الأرض ومن عليها؛ حتى يميز الخبيث من الطيب والمؤمن الصابر عن المنافق مستدلا بقوله تعالى: {ما كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:179].
وأضاف العكلوك في حديث لبصائر:" إذا علم الإنسان أنه مستخلف في الأرض ومخلوق لعبادة الله، وأن هذه الدنيا هي دار امتحان واختبار له، فعليه أن يصبر ويحتسب أمره لله سبحانه وتعالى. مشيراً إلى ان الشدائد هي أمر حتمي في حياة كل مسلم ليميز الله الخبيب من الطيب فتتقلب حياته في الدنيا بين العسر واليسر والصحة والمرض والشقاء والسعادة والعمل والبلاء.
وتطرق العكلوك في حديثه لما تمر به الأمة الإسلامية ويعانيه أهل غزة تحديداً من الشدائد والابتلاءات بسبب الحصار المفروض عليهم منذ أحد عشر عاماً، مشيراً إلى أن االله اختارهم واصطفاهم من بين جميع الخلائق والناس ليسلطهم على اليهود، مذكراً بقول النبي صلى الله وعليهم وسلم: "تُقَاتِلُكُمُ اليَهُودُ فَتُسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ يَقُولُ الحَجَرُ: يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي، فَاقْتُلْهُ" (رواه البخاري).
وقال:" هذه الابتلاءات والشدائد التي يمر بها أهلنا في قطاع غزة هي منة وكرامة من الله حيث اختارهم ليقاتلوا اليهود حتى قيام الساعة، وليصعد المؤمنون الصابرون منهم درجات في الجنة بصبرهم وثباتهم على مايعانون من الشدائد.
ولفت العكلوك إلى أن من الأسباب التي تحث على الصبر على الابتلاءات والشدائد التمسك بحبل الله والاعتصام بدينه لقوله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} [آل عمران:103] وسؤال المؤمن لربه بأن يثبته على هذه الشدائد حتى يلقى الله وهو راضٍ عنه كما قال النبي صلى الله وعليهم وسلم: "عجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ" (رواه مسلم).
السلف الصالح والابتلاءات
وأشار إلى ضرورة الإيمان بقضاء الله وقدره والتسليم لأمره والرضا بما قسم الله تعالى، وأن القدر لا يرد ولايؤجل، مستدلاً بقول النبي صلى الله وعليه وسلم: "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام، وجفت الصحف) (رواه الترمذي).
وسرد العكلوك ما عايشه الصحابة من الابتلاءات والمحن حيث كانوا يعذبون ويقتلون ولا يستطيع أن يفعل النبي صلى الله عليه وسلم لهم شيئاً فذهبوا إليه وهو متوسِّدٌ بردةً له في ظل الكعبة، فقالوا له: ألا تستنصرُ لنا، ألا تدعو الله لنا، قال: "كان الرجلُ في من قبلكم يُحفَرُ له في الأرض، فيُجعل فيه، فيُجاء بالمنشار، فيُوضَع على رأسِه، فيُشقُّ باثنتين، وما يصدُّه ذلك عن دينِه، ويُمشَط بأمشاطِ الحديد ما دون لحمِه من عَظْم أو عصَب، وما يصدُّه ذلك عن دينِه، والله ليُتمنَّ هذا الأمرَ حتى يسيرَ الراكبُ من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا اللهَ أو الذئبَ على غنمِه، ولكنكم تستعجلون" (رواه البخاري).
كما أشار إلى قصة أهل الخدود وثباتهم وصبرهم أمام المحن والابتلاءات؛ ليكون لهم الأجر الكبير، ولأعدائهم عذاب جهنم، لافتاً إلى أن الصبر والثبات مطلب أساسٌ لكلِّ مسلم صادق، يريد سلوك الصراط المستقيم بعزيمة ورشد.
وحول دور العلماء والدعاة في توجيه الناس وتثبيتهم في حال وقوع الشدائد والابتلاءات شدد على أهمية دورهم في غرس الأمل والطمأنينة في قلوب الناس ونفوسهم من خلال تبشيرهم بنصر الله وفتحه القريب والحديث عن منهج وسنة النبي صلى الله وعليه وسلم وما عايشه والسلف الصالح من المحن والابتلاءات.
وأوضح أن للدعاة دوراً كبيراً في تثبيت الناس على الحق وفي وقت الأزمات والمطلوب منهم أن يذكروا الناس بالله وبعظمته وأنه هو الذي يرفع ويخفض، وهو الذي بيده كل شيء وهو يرفع أقواماً ويذل أقواماً، وأن الله تعالى قادر على كل شي.
وأشار إلى أن من ميادين تحقيق ذلك منابر المساجد ووسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي على اختلافها، ذلك أنها تصل إلى كل فرد وتؤثر في السلوك الفردي والجماعي.
ثمار الصبر
من جهته أكد الداعية والشيخ صقر أبو هين على أن الثمار التي يجنيها المؤمن على صبره وثباته أمام الابتلاءات والمحن عديدة، مشيرا إلى حديث الرسول صلى الله وعليه وسلم: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله -عز وجل-إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط" (رواه الترمذي).
وأوضح في حديث لبصائر إلى أن من تلك الثمرات دخول جنة عرضها السماوات والأرض مستدلا بقوله تعالى {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142].
وقال:" يجني الصابر والمحتسب على الشدائد رضا الله سبحانه وتعالى وما أجملها من ثمرة عندما يعيش المؤمن في هذه الدنيا ويكون الله راضياً عنه فهو يكسب الدنيا ويعيش فيها بسعادة واطمئنان.
وأضاف: المحن والابتلاءات تكفّر السيئات والذنوب حيث يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم-: "ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه، وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة" (رواه الترمذي).
ولفت إلى أن المحن والابتلاءات أمر حتمي في حياة المسلم ليميز الله الخبيث من الطيّب، حيث خلق الله سبحانه وتعالى الحياة وجعلها داراً للابتلاءات والمحن. وأشار إلى أن الإنسان المؤمن يزداد تعلقه بالله ويكون حريصاً على عبادته والإكثار من النوافل وتلاوة القرآن الكريم.
وسائل الثبات
وعدد أبو هين بعض الأمور التي يجب الحرص على تطبيقها في حال البلاء والمحن:
- الإيمان بقضاء الله وقدره لقول الرسول صلى الله وعليه وسلم: "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام، وجفت الصحف" (رواه الترمذي).
- حُسن الظن بالله تعالى وذلك كما أخبر بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم-عن رب العزة تبارك وتعالى أنه قال: "أنا عند ظن عبدي بي" (رواه مسلم).
- الإيمان بأنّ الابتلاءات والمحن والمصائب من دلائل الفضل، لقول النبي -صلى الله عليه وسلَّم- عندما سئل عن أشد الناس بلاءً؟ قال: "الأنبياءُ، ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلْبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة" (رواه الترمذي)
- التأسي بغيرنا من أهل المصائب، ونتذكَّر ما هم فيه من البلاء، ونتذكَّر قول الرسول صلى الله عليه وسلَّم: "ومَن يتصبَّرْ يُصَبِّرْهُ الله" (متفق عليه).