من نافل القول، التأكيد على هيمنة الرقميات على عالمنا المعاصر، وكذلك من نافل القول التأكيد على أن الرقميات قد أحدثت على الإنسانية الكثير من المتغيرات، حتى في المجال الأخلاقي والاجتماعي.
وكما يعرف المتخصصون في مجال المعلومات –التي هي صنو التقنيات الرقمية– أن كثرة المعلومات، تحدِث أثرًا عكسيًّا، من تشويش وإرباك، وعدم قدرة من جانب المتلقِّين على قياس الأمور .
وأهم المجالات التي قادت التقنيات الرقمية إلى حالة من التشويش فيها، مجالا الإعلام والثقافة والمعرفة، مع وجود رابط يجمع بين هذه الأمور كلها؛ المعلومات والرقميات والإعلام والثقافة والمعرفة، وهو –أي هذا الرابط– أنها تتعلق بمحتوىً يتلقاه الإنسان من خلال وسائط حواسه المرتبطة بالعقل والإدراك.
وبين أيدينا كتاب مهم في موضوعه؛ حيث إنه يسعى لفض الاشتباك بين مسألة التطور في مجال التقنيات الرقمية وما اتصل بها، وعلى رأسها تقنيات حفظ ونقل المعلومات، والعوالم الافتراضية أو ما يُعرَف بـ"السيبرانية"، وبين أثر هذا التطور في مجالات الإعلام والثقافة والمعرفة، وخلفيتها الأوسع في المجال المجتمعي.
مع الكتاب
والكتاب بين أيدينا ينتمي إلى النوعية من المؤلَّفات التي تخصص فيها المؤلف والمتمثلة بالرصد العميق من داخل الظاهرة مما يقود إلى نتائج مختلفة عن التصورات الشائعة حول الموضوع الذي يناقشه.
الكتاب حمل عنوانًا استفهاميًّا، وهو: "الثورة الرقمية.. ثورة ثقافية؟"، ولكنه يفيد النفي كما يتضح من المحتوى.
المؤلف قسَّم كتابه إلى ثلاثة أجزاء، وسبعة فصول؛ حيث تضمن كل جزء من أجزاء الكتاب الثلاثة، بين فصلَيْن وثلاثة فصول، بالإضافة إلى مقدمة وخاتمة.
الجزء الأول من الكتاب، وجاء في فصلَيْن، وحمل عنوان: "سياق تكنولوجي واقتصادي جديد"، كان مفاهيميًّا؛ حيث عرَّف فيه المؤلف بشكل تطبيقي، التقنيات الحديثة واستعمالاتها، مركِّزًا على الرقميات والإنترنت، والعلاقة بين التقنيات الحديثة والمجتمع، بالإضافة إلى كيفية استعمال هذه التقنيات الجديدة، مع عدم إغفال الجانب الاقتصادي المهم للتقنيات الرقمية الحديثة؛ حيث أشار إلى ما وصفه بالسوق الرقمية، وكيف أثَّرت على ثقافة الرؤية والتلقِّي لدى الجمهور.
وفي هذا الجزء من الكتاب، قدَّم المؤلف نظرة على التطورات التي مرت عبر العقود الماضية على وسائط الإعلام والاتصالات، رابطًا هذه التطورات بالتحولات التي شهدتها الإنسانية فيما يُعرَف بالثورات الصناعية المتتالية، والتي بدأت منذ مرحلتها الثالثة في الاستخدام المكثَّف للمعلومات والبيانات، والأدوات التي تمثِّل أوعية لها.
الجزء الثاني من الكتاب، وكان في ثلاثة فصول، وحمل عنوان: "علاقة أخرى مع الآخر، والإبداع والمعارف"، ركَّز فيه المؤلف على ظاهرة العصر، وهي المدونات والشبكات الاجتماعية على الإنترنت، بكل ما لها من آثار في الجانب الاجتماعي والسلوكي والثقافي.
ومن ضمن القضايا المهمة التي ركَّز عليها المؤلف في هذا الجزء، كيف أثَّرت هذه المبتكرات التي تعتبر نواتج للتقنيات الرقمية، على ثقافة التعايش، أو ما أطلق عليه المترجِم مسمى "ثقافة التقاسم".
كذلك ركَّز على أثر الإنترنت والوسائط التقنية بشكل عام، على طرائق القراءة لدى الإنسان، وبالتالي، مستقبل الكتاب الورقي.
ولم يغفل باعتباره عالم اجتماع في الأصل، الجوانب المتعلقة ببعض النواحي ذات الطابع النفسي والفسيولوجي في طرائق القراءة لدى الإنسان، ومدى قدرة الإنسان على التكيف والانتقال من الوسيط الورقي إلى الوسيط الإلكتروني، بأية صيغة كان.
وفي هذا السياق، تناول بعض القضايا المطروحة على بساط البحث الاجتماعي في هذه المرحلة في المجتمعات الإنسانية المختلفة التي تهتم بهذه الأمور، مثل الملفات الشخصية على الوسائط المختلفة، كالمدونات ومواقع التواصل الاجتماعي.
كما ركَّز على قضية عدم تكافؤ عملية وصول مفردات التقنية الرقمية الحديثة إلى كل المجتمعات، أو ما أطلق عليه مسمَّى "عدم التكافؤ السوسيو - ثقافي" فى مجال استخدام تقنيات الإعلام الجديد والتواصل، في ظل تباين قدرات المجتمعات الإنسانية المختفة في مجال استخدام الإنترنت.
الجزء الثالث، وكان بعنوان: "علاقة أخرى مع الإعلام والسياسة"، جاء في فصلين، وتناول فيه المؤلف أثر التطورات الحاصلة في الحقل الرقمي على السياسة، والتداخل الحاصل بين السياسي والإعلامي، وكيف قادت التقنيات الرقمية إلى تحولات خلقت واقعًا إعلاميًّا جديدًا في إشارة إلى ما تتيحه الوسائط الإلكترونية من أوعية جديدة، سواء الإنترنت، أو خدمات الأخبار في صورة رسائل على الهواتف، وغير ذلك.
وتناول في هذا الصدد، أنشطة التواصل السياسي عبر الإنترنت، وكيف غيَّرت من طبيعة مفاهيم العمل السياسي التقليدية.
وأشار في هذا الصدد إلى تأثيرات الإنترنت ووسائط الإعلام والتواصل الإلكترونية على الحملات الانتخابية وتوجيه الرأي العام، ضاربًا على ذلك نماذج من الغرب، مثل فرنسا والولايات المتحدة، ولكنه يشير من جهةٍ أخرى إلى أن ذلك لم يقُد إلى تطور حقيقي في المشاركة السياسية والديمقراطية.
وفي تقييمه للأثر الاجتماعي والسياسي للتقنيات الرقمية، يقدِّم ريفيل صورة تشاؤمية بعض الشيء؛ حيث إنه يقول إن الرقميات لم تغير من مشكلات مثل عدم المساواة، وسوء الفهم بين البشر، ولم تقلص من مستوى النزاعات، كما أنها لم تصبح مصدرًا من مصادر التجديد الثقافي.
ولكنه لم ينكر أن هناك حالة من التطور الكبير الذي جرى في مختلف مناحي حياة البشر بحكم التوسُّع الكبير في مجال الرقميات ، مخصِّصًا الحديث في هذا الصدد على شبكات الاتصالات الذي قال إنها أدت إلى الكثير من السرعة والتفاعلية في العلاقات الإنسانية، ولكنه يكرر التأكيد أن الرقميات لم تقُد إلى تطور حقيقي في المجالات الإبداعية مثل الكتابة والسينما والموسيقي، وغير ذلك من مظاهر الإبداع الإنساني.
وفي توصياته في الخاتمة، اقترح الكاتب إجراء المزيد من الدراسات الاجتماعية في مجال بحث آثار الابتكارات التقنية الحديثة على المجال الثقافي والمعرفي.
ويقول المؤلف، إن التقنيات الرقمية، لاسيما في المجال الثقافي والمعرفي، ليست سوى انعكاس للاستعمال الذي يتم بها، وليس لها أثرٌ في حد ذاته؛ أي أنت واستعمالك للتقنيات الرقمية؛ حيث يشير إلى أن الكثير من الاستخدامات لهذه التقنيات، لا تفيد في عملية توليد المعرفة، أو تحسين المدركات الثقافية للإنسان، وللمجتمعات بشكل عام .
مع المؤلف
مؤلف الكتاب، البروفيسور ريمي ريفيل (Remy Rieffel)، أكاديمي فرنسي من مواليد العام 1954م، ويعمل أستاذًا للاجتماع في جامعة باريس الثانية، ومديرًا في معهد الصحافة الفرنسية (IFP).
تخصص ريفيل في مجال دراسة الإعلام والاجتماع والتقاطعات فيما بينهما لجهة علاقة التأثير والتأثُّر، وله كتب ودراسات عدة في هذا المجال، فنَّد فيها الكثير من التصورات النمطية أو التقليدية المأخوذة عن الصحافة والإعلام وعلاقتهما مع الجمهور، مثل كتاب "أسطورة الصحافة الحرة" (2016م)، و"وسائل الإعلام وجمهورها في فرنسا وألمانيا" (صدر عام 2003م، وألَّفه بالاشتراك مع آخرين منهم أستاذة الإعلام والاجتماع الألمانية المعروفة، أورسولا كوخ).
بيانات الكتاب:
اسم المؤلف: ريمي ريفيل (Remy Rieffel)
اسم الكتاب: الثورة الرقمية.. ثورة ثقافية؟
ترجمة: سعيد بلمبخوت
مكان النشر: الكويت
الناشر: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب
اسم السلسلة: "عالم المعرفة"
رقم العدد: 462
تاريخ النشر: يوليو 2018م
الطبعة: الطبعة الأولى
عدد الصفحات: 240 صفحة من القطع الوسط