الدين أعظم ما يصلح الحياة.. وفهمه المغلوط أعظم ما يفسدها

الرئيسية » بصائر الفكر » الدين أعظم ما يصلح الحياة.. وفهمه المغلوط أعظم ما يفسدها
muslim-prayer

منذ أن خلق الله البشر في هذه الحياة الدنيا، وكثيرون منهم يحاولون إصلاحها وهدايتها، بأفكار وفلسفات وضعية، تصيب في نواح، وتخطئ في نواح أخرى، وفي بعضها يكون الخطأ كثيراً إلى درجة تقترب من الصواب فيها، وفي بعضها يكون الخطأ أكثر من الصواب.

هكذا خلق الله البشر، بعقول بشرية محدودة القدرة، فالنقص مما كتبه الله على بني آدم في كل شيء، والعقل من هذه الأشياء المتلبسة بالنقص، فيطال النقص كل مخرجاته من فهم وإبداع وتأطير.

ولأن الله هو الذي خلق الإنسان وخلق عقله، وهو الأعلم به وبنقصه، فقد أنزل الله عليه الدين و أرسل له الرسل، لمحاولة معالجة هذا النقص اللازم، عن طريق هداية الوحي وإرشاده .

الدين.. طريق التعرّف على الله

جاء الدين أولا ليعرّف الناس على الله، فالإنسان بغير هداية الوحي لا يستطيع معرفة الله حق المعرفة، حتى وإن اهتدى إليه بعقله ابتداء.
الجملة المشهورة على ألسنة العوام التي تقول (ربنا عرفوه بالعقل)، جملة ليست صحيحة تمام الصحة.

فمعرفة الله في تاريخ هذه الحياة الدنيا كلها كانت بالوحي، الذي يرسله الله للناس على يد نبي من أنبيائه، فإذا مات النبي، ومرت السنون من بعده، وحرّف الناس وبدلوا، وزاغت عقولهم في معرفة ربهم، وعبدوا الأصنام والأفلاك والصور، أرسل الله لهم نبياً آخر بوحي آخر، ليعيد هدايتهم للطريق، وليعيد تعريفهم بالله، وهكذا.

الله عز وجل عُرف في هذه الحياة بالوحي، ومعرفته بالعقل تأتي على الهامش.

وحتى لو كان البعض قد اهتدى لله بعقله، فهم يحتاجون من بعد هذه المعرفة الابتدائية بالله إلى أن يهتدوا بهداية الوحي في معرفة الله حق المعرفة، ومعرفة كنهه وصفاته، ومعرفة مراده من الناس، ومعرفة منهجه وطريقته.

وخلاصة ما يقال في قصة الفلاسفة الأوائل مع الله، أن أكثريتهم وصلت لمعرفة الله ابتداء، حيث الإقرار بوجود قوة غيبية مطلقة وراء هذا الخلق وهذه الحياة، غير أنهم ضلّوا بعد ذلك في تحديد هذه القوة الغيبية وتحديد كنهها وصفاتها ومرادها، لأنهم أطلقوا العنان للعقول، ولم يهتدوا بوحي، فضلّوا وأضلّوا.

لهذا العقل البشري مخلوق قاصر ناقص لا يستغني عن وحي الله وهدايته في أي صغيرة أو كبيرة .

وجاء الدين ثانية لإصلاح هذه الحياة الدنيا، وضبط حركتها وعلاقاتها، حتى يهنأ الناس فيها، ويهنأون بعد ذلك في حياتهم الأخرى.

منهج إلهي سماوي أنزله الله على الناس لإصلاح دنياهم وأخراهم، فإن هم استقاموا عليه، صلحت دنياهم وصلحت أخراهم.

لو أن الله قد جعل منهجه لإفساد الدنيا من أجل الآخرة، لقلنا ساعتها إن الله لم يظلمنا، وإن منهجه ليس إلا إفساد حياة لا تتعدى المائة عام لأكثرنا عمراً من أجل إصلاح حياة لا نهاية لها في جنات خالدة ونعيم مقيم.

ولكن رحمة الله بالناس وإكرامه لهم أن جعل صلاح أخراهم في صلاح دنياهم، وجعل منهجه الذي أنزله إليهم هو المنهج المصلح للدنيا قبل الآخرة.

محاولات إصلاحية بشرية

في محاولة إصلاح الحياة الدنيا، حاول البشر بأفكار وفلسفات وضعية كثيرة، فأصابت وأخطأت، وكان خطؤها ليس بأقل من صوابها.

في محاولة إصلاح الحياة الدنيا، حاول البشر بأفكار وفلسفات وضعية كثيرة، فأصابت وأخطأت، وكان خطؤها ليس بأقل من صوابها

ولأن الله عز وجل هو الخالق، وهو الذي أراد أن يحتفظ لذاته بحق التشريع والهداية، فقد كتب النقص والخلل على كل التشريعات البشرية الوضعية، كتبه الله عليها كتابة خاصة، حتى يظل البشر في حاجة لربهم احتياج الطفل الصغير لهداية أبيه وأمه، ولكنف وجوار أبيه وأمه.

قديما حاول كبير من كبار الفلاسفة، أن يشرّع المدينة فاضلة، فجاءت مدينته الفاضلة المزعومة في صورتها الناقصة بائنة النقص.

وليعُد القارئ لدستور هذه المدينة كما وضعه أفلاطون، ليرى ذلك العوار الكبير، والذي منه (المشاعة الجنسية ) لطبقة الحكام والجند، أي الحرية الجنسية المطلقة، وكذلك المشاعة في الأولاد.

وحديثا أنتج الفلاسفة نظريتين للحكم وللحياة، نظرية الرأسمالية في العالم الغربي، ونظرية الاشتراكية في العالم الشرقي، فكانت النظريتان أنقص من بعضهما.

الاشتراكية التي ألغت الفرد في مقابل تغول الجماعة والدولة، فجارت على حق الفرد في التملك، وحقه في الحرية، فأنتجت لنا أنظمة شرقية ديكتاتورية، وقطيعاً من المواطنين العبيد، أو المستخدمين عند السلطان الحاكم، في أسوأ صورة للاستعباد والتسخير دون أي حقوق وأي عوائد عادلة.

والرأسمالية التي جعلت الفرد هو كل شيء، وجعلت حريته وشهوته ومتعته هي كل الحياة، فتوارت بجانب الفرد كل الأبعاد الأخرى (الدين والأخلاق والدولة).

الاشتراكية نادت بإلهها الجديد إله (الدولة والسلطة)، والرأسمالية نادت بإلهها الجديد إله (الفرد والحرية).

وكلها فلسفات أثبت الزمان عوارها وفشلها في إصلاح الحياة والوصول بالإنسان إلى الهناء والسكينة، فسقطت الفلسفة الشرقية الاشتراكية، وننتظر سقوط الفلسفة الرأسمالية الغربية، وليس الأمر ببعيد.

ولهذا لم يُصلح حياة الإنسان في هذه الدنيا مثل الوحي الإلهي والتشريع الإلهي، وإن المدينة الفاضلة التي نادى بها أفلاطون ولم يُحسن تشريعها ولم ير قيامها، قد قامت حقاً، وتم تشريعها على أحسن ما يكون، وذلك في مدينة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله عنهم.

المدينة الفاضلة التي نادى بها أفلاطون ولم يُحسن تشريعها ولم ير قيامها، قد قامت حقاً، وتم تشريعها على أحسن ما يكون، وذلك في مدينة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله عنهم

الفهم المغلوط.. أعظم المفاسد

الدين هو أعظم مصلح لهذه الحياة، ولن تستطيع فلسفة بشرية وضعية أن تُصلح كما يصلح.

لكن على الجانب الآخر، فإن الفهم المغلوط للدين هو أعظم ما أفسد هذه الحياة وأعظم ما سيظل يفسدها.

فالعداءات والحروب الدينية التي قامت على فهم مغلوط للدين وتحت شعاراته الخاطئة هي من أكثر حروب الدنيا فجاجة وقبحا.

حروب بين الكاثوليك والبروتستانت، وبين المسلمين والمسيحيين في أسبانيا وفي الحروب الصليبية وفي حركة الاحتلال الغربي لبلاد العرب والمسلمين.

وها هو العداء والحروب المتتالية بين اليهود والمسلمين، وكلها عداءات وحروب مبنية على فهم مغلوط للدين، يرى فيه اليهود أنهم شعب الله المختار، وأنهم موعودون بأرض فلسطين، وبإقامة هيكلهم المزعوم في القدس.

وأكبر قصة استعباد من الأنظمة الحاكمة لشعوبها جاءت تحت فهم مغلوط للدين ، فقديما كان الحاكم الأوربي المسيحي مدعوماً من الكنيسة، حاكماً باسم الرب، ومعارضته معارضة للرب تستوجب الطرد من رحماته وملكوته.

وحديثاً نرى الحاكم العربي المسلم مدعوماً من رجال الدين الإسلامي الأفّاكين الكذابين، الذين ينادون بالحق السماوي للحاكم في الحكم دون معارضة أو منازعة من أحد، وكل من ينازعه على الحكم أو يعارضه فيه خارجي يستوجب القتل في الدنيا والنار في الآخرة.

صورة حديثة لحكام مسلمين ورجال دين مسلمين، تشبه الصورة القديمة للحكام المسيحيين ورجال الدين المسيحيين، في أقبح صورة للفهم المغلوط للدين، وللمتاجرة والكذب والتدليس به.

وأفجع صور القتل والتعذيب جاءت في التاريخ الإنساني كله بفهم مغلوط للدين وعلى أساس تعصب مقيت بسببه.

فمحاكم التفتيش التي نصبها النصارى الأوروبيون للمسلمين في الأندلس لم يشهد التاريخ لها مثيلاً.

وفي تاريخنا المعاصر جاءت المجازر لمسلمي البوسنة وكوسوفا وأفريقيا الوسطى وميانمار وغيرها.

والكره للآخر لمجرد مخالفته في العقيدة والدين، والمكر له والتنكيل به، مسيطر على الحياة قديمها وحديثها إلى أبعد حد.

ورغم أن الله أنزل دينه الحق ليوحّد الناس في أخوة إنسانية وعقائدية واحدة، إلا أن الفهم المغلوط له فرّق الناس شيعا ومذاهب وأدياناً، وجعل بينهم أكبر الكره وأشد الحقد وأكثر العداء.

رغم أن الله أنزل دينه الحق ليوحّد الناس في أخوة إنسانية وعقائدية واحدة، إلا أن الفهم المغلوط له فرّق الناس شيعا ومذاهب وأدياناً، وجعل بينهم أكبر الكره وأشد الحقد وأكثر العداء

والتكفير والتفجير الذي انتشر في حياتنا المعاصرة، وخصوصا في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، هو من الفهم المغلوط للدين، ومن أكثر ما أفسد علينا حياتنا.

فلماذا يشغل الناس أنفسهم بالبحث في صحة عقائد الناس، ولماذا لا يجعلون كل همهم في دعوتهم ونصحهم وإرشادهم، وترك الحكم عليهم لله وحده، وقد أحسن الأستاذ حسن الهضيبي إذ كتب هو وإخوانه كتابه (دعاة لا قضاة)، ليشير للناس أن مهمتنا في هذه الحياة أن نكون دعاة ومرشدين ومصلحين، والقضاء والحكم عند الله في آخرته .

ثم، من الذي يقول بقتل كل مخالف في العقيدة لمجرد المخالفة، إنما القتل للمخالف المعتدي الجائر.

فلو افترضنا أن الحكم بكفر الناس حكم صحيح، فليس معنى ذلك أن نستحل دماءهم وأموالهم لمجرد الحكم بكفرهم، وخصوصا مع البسطاء المسالمين.

الدين الإلهي هو أعظم ما يصلح هذه الحياة الدنيا، وفهمه المغلوط هو أعظم ما يفسدها، لأن فهمه المغلوط إنما يحوّله في الحقيقة لدين بشري وضعي، تتحكم فيه العقول الفاسدة والأهواء المفسدة ، وبالتالي فهو عندما يُفسد فهو يفسد كفهم مغلوط ودين وضعي وفلسفة وضعية، لا كدين إلهي سماوي ليس فيه إلا الصلاح في الدينا والآخرة.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتب وشاعر وروائي مصري، مهتم بالفكر الإسلامي والحركة الإسلامية

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …