كثير من الكتاب والمؤرخين –القدماء والمحدثين– خاضوا في تلك الحقبة الأليمة في تاريخ المسلمين، وسوّلت لكثيرين أنفسهم أن يعيثوا فيها فساداً، ويرتعوا فيها بتأويلات شخصية وتخرصات ما لها من سلطان، بل ويحملون أحياناً على فريق ضد آخر، فيتعاطفون مع طائفة، ويوغرون الصدور على الأخرى، ناسين أو متناسين أن من يتحدثون عنهم هم صحبة خير الخلق الذين اصطفاهم الله لصحبة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وكان نتاج ذلك العبث تصورات شوهاء عن تلك الحقبة في تاريخ المسلمين ، وتشكّل منطقة خطر لا يُقدِم على الحديث فيها أحد فيصيب إلا من رحم ربي.
فيما يلي من سطور، سرد للحقائق الخالصة التي تعني كل مسلم في هذا الصدد، دون تشويش بالخوض فيما لا يعني ويفيد:
(1) فضل الصحابة عليهم الرضوان:
- في القرآن:
• {والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم} [التوبة، آية:100].
• {والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم} [الأنفال،آية:74].
• {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون} [التوبة، آية:20].
• بل وقرنهم الله تعالى بنبيه صلى الله عليه وسلم، تشريفاً لهم وتعظيماً لمقامهم، في قوله تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود} [الفتح،آية:29].
فكيف يخاض في عرض من أثنى الله تعالى عليهم، وشهد لهم بأثر السجود من فوق سبع سماوات في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه!
- في الحديث:
• (لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فو الذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مُدّ أحدهم ولا نصيفه) (رواه البخاري).
• (خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) (رواه البخاري).
• (النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون) [رواه مسلم].
• (من سبّ أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) (صحيح الجامع) -أي أن أصحاب رسول الله أمان للمسلمين من ظهور البدع والفتن في الدين، فهم سبب لحفظ الأمة في عصرهم وحفظ الله بهم أصول الدين لمن بعدهم، فمن أعظم منهم فضلاً من الخلق بعد المصطفى عليه السلام!
(2) خطر التعرض للصحابة والخوض في أعراضهم:
• قال الذهبي في كتابه (الكبائر): "الكبيرة السبعون: سبُّ أحد من الصحابة".
• وقال الإمام أحمد: "إذا رأيت أحداً يذكر أصحاب رسول الله بسوء فاتهمه على الإسلام".
• وقال الإمام مالك: "من شتم النبي قُتل، ومن سبّ أصحابه أُدب".
والقَدْح في الصحابة ليس قدحاً مختصاً بهم فحسب، بل هو قدح في النبي صلى الله عليه وسلم، وفي شريعة الله، وفي ذات الله عز وجل! فالقدح في النبي عليه السلام من حيث إن أصحابه وأُمَناءه وخلفاءه الذين ائتمنهم على أمته من شرار الخلق! وفيه كذلك تكذيبه صلى الله عليه وسلم فيما أخبر من فضائلهم ومناقبهم!
وأما كونه قدحاً في شريعة الله؛ فلأن الواسطة بيننا وبين رسول الله في نقل الشريعة هم الصحابة، فإذا سقطت عدالتهم لم يبق ثقة فيما نقلوه، وأما أنه قدح في الله سبحانه وتعالى، فحيث بعث الله نبيه في شرار الخلق ثم اختارهم لصحبته، وحمل شريعته ونقلها لأمته، هذا ناهيك عن مدح الله لهم في كتابه العزيز، فهذا تكذيب صريح لكلام الله تعالى!
القَدْح في الصحابة ليس قدحاً مختصاً بهم فحسب، بل هو قدح في النبي صلى الله عليه وسلم، وفي شريعة الله، وفي ذات الله عز وجل!
(3) خلافة سيدنا عثمان بن عفان ذي النورين رضي الله عنه:
أولاً- من فضائله رضي الله عنه:
-رابع من أسلم، وصهر النبي صلى الله عليه وسلم وصفيه.
-أخرج ابن عساكر في تاريخه، قال سيدنا عثمان رضي الله عنه: "لقد اختبأت عند ربي عشراً: إني لرابع أربعة في الإسلام، وجهزت جيش العسرة، وأنكحني رسول الله ابنته، ثم توفيت، فأنكحني ابنته الأخرى، وما تغنيت وما تمنيت، ولا وضعت يميني على فرجي منذ بايعت بها رسول الله، وما مرت بي جمعة منذ أسلمت إلا وأنا أعتق فيها رقبة...، ولا زنيت في جاهلية ولا إسلام قط، ولا سرقت في جاهلية وإسلام قط، ولقد جمعت القرآن على عهد رسول الله".
-قال عنه النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم: (أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي: أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ: عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ...) (رواه الترمذي).
-وفي جيش العسرة الذي جهزه في غزوة تبوك قال: (ما ضرّ عثمان ما فعل بعد اليوم) (أحمد والترمذي).
-وتنبأ له بتلك الفتنة وعاقبته فيها فقال: (بشر عثمان بالجنة على بلوى تصيبه) (رواه البخاري).
ثانياً- التعقيب على سياسات خلافته رضي الله عنه:
بداية، مهما كان الرأي في سياساته رضي الله عنه، فيجب ألا يدفعنا ذلك إلى سوء أدب في التحليل أو القول مع صاحب رسول الله عليه السلام، ويجب ألا ينسينا البيضاء في الإسلام، وشهادة الله ورسوله له، وثانياً، مهما يكن من أمر، ومهما كان عندنا من مرويات فلن يمكننا بحال الوقوف على كل حقيقة وخبايا سياساته مع الرعية، ناهيك عن نيته أو تأوله فيما فعل، وإقدام الصحابة حوله على نقاشه، أو حتى الاختلاف معه في رؤاه وسياساته كان حقاً لهم وعليهم في حينه لأمر قائم يختص بهم، أما خوضنا نحن في هذا اليوم وقد طوي الأمر بأحداثه ومآسيه، فلن يعدو في الغالب كونه تطاولاً متعالماً –وربما رخيصاً- على أصحاب نبي الله عليه السلام.
(4) سيدنا علي كرم الله وجهه ورضي الله عنه:
أولاً- من مناقبه كرّم الله وجهه:
-ثاني من أسلم، وأول من فدى النبي صلى الله عليه وسلم كما هو معلوم ليلة الهجرة.
-هو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسول)، وقال كذلك: (علي مني وأنا منه).
-خلفه الرسول على المدينة في غزوة تبوك ولم يندبه للخروج معهم، وقال له: (ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى).
ثانياً- التعقيب على الخلاف مع السيدة عائشة رضي الله عنها في القصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه:
لم يكن القصاص بذاته محل خلاف قط بين الفريقين، وإنما كل ما هنالك أن السيدة عائشة ومن معها –أبرزهم سيدنا طلحة والزبير رضي الله عنهم- كانوا حريصين على البدء بالقصاص من قتلة عثمان، أما سيدنا علي فكان يرى البدء أولاً بتوطيد أركان الدولة بعد الفتنة التي عصفت بها، حتى يستتب الأمر ويستبين الحق، وما كان أبداً بأقل حرصاً على الظفر بقتلة عثمان، وهو الذي لطم ولديه "الحسن والحسين"، قائلاً لهما: "أيقتل عثمان وأنتما واقفان ببابه؟"
وإنما الذي أوقع بين الطائفتين هو "ابن السوداء، عبد الله بن سبأ اليهودي" -سوّد الله وجهه- فكما أشعل فتيل الفتنة في عهد عثمان من قبل وتسبب بقتله، بعث أعوانه ليغيروا على الطرفين في الليل بعدما تمّ الصلح؛ ليحسب كل فريق أن الآخر بدأه بالغدر، وكان "لابن السوداء" يد كذلك في تأليب الخوارج على سيدنا علي بعد ذلك، بما أفضى لقتله رضي الله عنه على يد "عبد الرحمن بن ملجم".
والعجيب أن كتب التاريخ في جلّها تنصرف إلى التركيز على ما وقع بين الصحابة، وتحليل مواقفهم والتأوّل في نواياهم، وتخوض في أعراض الأجلاء، في حين تترك أصابع الفتنة المكشوفة دون تعريتها بالمثل، ولا يخفى على ذي عقل أن الكتابة عن تلك الفتنة بذلك الأسلوب نهج كيدي ذو غايات كيدية.
كتب التاريخ في جلّها تنصرف إلى التركيز على ما وقع بين الصحابة، وتحليل مواقفهم والتأوّل في نواياهم، وتخوض في أعراض الأجلاء، في حين تترك أصابع الفتنة المكشوفة دون تعريتها بالمثل
ثالثاً- التعقيب على رفض معاوية بن أبي سفيان مبايعة علي رضي الله عنه:
كتب البوطي في كتابه "فقه السيرة النبوية":
"يقيناً منّا بإخلاص سيدنا علي كرم الله وجهه فيما يفعل ويذر، وبأنه لا يتبع في ذلك هوى نفسه، ويقيناً بعلمه الغزير، ونظراً إلى أنه قبل مبايعة الناس بعد مقتل عثمان، واعتبر مخالفة معاوية له وإصراره على عدم مبايعته بغياً فإننا نقرّر ما أقرّه جمهور علماء المسلمين وأئمتهم من أن معاوية كان باغياً في الخروج على علي، وأن عليّاً هو الخليفة الشرعي بعد عثمان، غير أننا يجب ألا ننسى أن الباغي مجتهد ومتأول -كان رفض سيدنا معاوية على أساس افتراق أهل العقد والحل من الصحابة في مختلف الأمصار، وأن البيعة لا تتم إلا بموافقتهم جميعاً، أما سيدنا علي فكان يرى أن البيعة تمت له بموافقة أهل المدينة وكفى- وإذا جاز لسيدنا علي صاحب الاجتهاد المقابل أن يحذره ثم ينذره ثم يقاتله، فإنه لا يجوز لنا وقد انطوى العهد أن نتخذ من انتقاص معاوية ديدناـ وأن نقف منه -دون أية فائدة مرجوة- موقف الندّ من عدوه اللدود، وحسبنا في مجال العقيدة أن نعلم طبقاً لقواعد الشريعة أن عليّاً كان الخليفة الشرعي، وأن معاوياً كان -حكمه الشرعي- باغياً في الخروج عليه -ونيته في ذلك عند الله- ثم نكل الأمر والحساب إلى الله عز وجل" اهــ.
رابعاً- التعقيب على طعن البعض في عمرو بن العاص لمناصرته معاوية:
يقال فيه ما قيل من قبل من عدم جواز سوء الأدب في الحديث عنه، وحسبنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه: (أسلم الناس وآمن عمرو) (مسند أحمد)، وكان ممن قادوا جيوش محاربة الردّة في عهد الصديق، ثم أكثر الله على يديه الفتوحات في عهد الفاروق، وحسبنا من سيرته المشهد التالي قبيل وفاته، فيما رواه مسلم وأحمد:
"لَمَّا حَضَرَتْ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ الْوَفَاةُ بَكَى، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللهِ: لِمَ تَبْكِي، أَجَزَعًا عَلَى الْمَوْتِ؟ فَقَالَ: لَا وَاللهِ، وَلَكِنْ مِمَّا بَعْدُ. فَقَالَ لَهُ: قَدْ كُنْتَ عَلَى خَيْرٍ، فَجَعَلَ يُذَكِّرُهُ صُحْبَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفُتُوحَهُ الشَّامَ، فَقَالَ عَمْرٌو: تَرَكْت أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، إِنِّي كُنْتُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَطْبَاقٍ لَيْسَ فِيهَا طَبَقٌ إِلَّا قَدْ عَرَفْتُ نَفْسِي فِيهِ: كُنْتُ أَوَّلَ شَيْءٍ كَافِرًا، وَكُنْتُ أَشَدَّ النَّاسِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَوْ مُتُّ حِينَئِذٍ وَجَبَتْ لِي النَّارُ، فَلَمَّا بَايَعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنْتُ أَشَدَّ النَّاسِ حَيَاءً مِنْهُ، فَمَا مَلَأْتُ عَيْنِي مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا رَاجَعْتُهُ فِيمَا أُرِيدُ حَتَّى لَحِقَ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ حَيَاءً مِنْهُ، فَلَوْ مُتُّ يَوْمَئِذٍ قَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لِعَمْرٍو، أَسْلَمَ وَكَانَ عَلَى خَيْرٍ، فَمَاتَ فَرُجِيَ لَهُ الْجَنَّةُ، ثُمَّ تَلَبَّسْتُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالسُّلْطَانِ وَأَشْيَاءَ، فَلَا أَدْرِي عَلَيَّ أَمْ لِي، فَإِذَا مُتُّ فَلَا تَبْكِيَنَّ عَلَيَّ وَلَا تُتْبِعْنِي مَادِحًا وَلَا نَارًا، وَشُدُّوا عَلَيَّ إِزَارِي فَإِنِّي مُخَاصَمٌ، وَسُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ سَنًّا، فَإِنَّ جَنْبِيَ الْأَيْمَنَ لَيْسَ بِأَحَقَّ بِالتُّرَابِ مِنْ جَنْبِي الْأَيْسَرِ، وَلَا تَجْعَلَنَّ فِي قَبْرِي خَشَبَةً وَلَا حَجَرًا، فَإِذَا وَارَيْتُمُونِي فَاقْعُدُوا عِنْدِي قَدْرَ نَحْرِ جَزُورٍ وَتَقْطِيعِهَا، أَسْتَأْنِسْ بِكُمْ"اهــ.
(5) أحسن ما قيل في تلك الحقبة وفتنها:
-قول عمر بن عبد العزيز: "تلك دماء طهر الله أيدينا منه، فلا نخضب ألسنتنا بالخوض فيها ".
-قول أحد التابعين الفقهاء لما سئل عنها: "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون".
كتب ذات صلة بالموضوع
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- فقه السيرة النبوية\البوطي
- سير أعلام النبلاء\الذهبي.
- تاريخ دمشق\ابن عساكر
- دور المرأة السياسي فى عهد النبي محمد والخلفاء الراشدين\أسماء زيادة
- الصارم المسلول على شاتم الرسول\ابن تيمية
- صحيح البخاري
- سنن الترمذي