هذا الكتاب جذبني عنوانه، وأوحى إلي حجمه (حوالي 600 صفحة) بأن ثمة دسماً معتبراً كامناً فيه -ولو كان مجرد التجميع والتصنيف في قضية كهذه يندر أن تجد فيها اشتغالاً وافياً- ففاجأني العنوان الجانبي بأكثر من مهمة جمع وتصنيف؛ إذ يذكر: "دراسة تاريخية في ضوء قواعد علم الحديث، عن (دور المرأة السياسي) في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، وبها تحقيق تاريخي وفقهي وتشريعي لِفهمِ دَور السيدة عائشة في أحداث الفتنة".
فاستقرّ العزم على مطالعته لما تبدى جلياً من دقة الباحثة في توصيف ما سعت إليه وانتهت به، وما كدت أنهي الكتاب حتى وجدتني امتلأت من الفوائد كأنما خرجت للتوّ من مأدبة عامرة!
مع الكتاب:
موضوع الدراسة تتبع الحضور السياسي للمرأة في أهم عصور التاريخ الإسلامي، وأشدها اقتراباً من "حقيقة" الإسلام في صدره الأول، وذلك من خلال دراسة أهم أشكال الممارسة السياسة للمرأة خلال تلك الحقبة، بداية من اعتناق المسلمات الأُوَل للدين، وهجرتهن في سبيل الله، ومبايعاتهن المختلفة على العهد للنبي صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين، وصور جهادهن واجتهادهن في ممارساتهن المختلفة ومشاركتهن السياسية في أحداث الفتنة التي ألمّت بالأمة الإسلامية.
وفي نزاهة علمية ومسؤولية تاريخية، تنوه الباحثة في البداية لكل من يخطر بباله أن البحث ملوّث بطابع "النسوية" وأراذلها، فتقول إن هدف الرسالة يتجاوز "منطق الدفاع عن المرأة –قدر الإمكان– لكي يجعل الحقائق التاريخية المجردة نفسها تشكل في ذهن القارئ النسق الحقيقي للأحداث، وتدفع عنها كل ما علّق بها الماضي والحاضر من تهاويل وإضافات ومفتريات، ما كان لها أن تصمد أمام الواقعة التاريخية الصحيحة، إذا ما تمّ البحث عنها بتجرد، وأخلاق، وليس غير الواقعة التاريخية حكماً، وقاضياً"، وهذا مما يرفع القيمة العلمية للجهد ونتاجه.
ثم تزداد القيمة حين تعرض الباحثة لمنهجها في البحث، والذي لا يقتصر على مجرد التجميع والترتيب التأريخي للأحداث، وفي ذات الوقت لم يخترع منهجية بحث وتأصيل جديدة، بل أفادت ببراعة من منهجية إسلامية أصيلة في مجال لم توظف فيه قبلاً كما ذكرت الباحثة، وهو عرض مختلف المرويات التاريخية –خاصة في أحداث الفتنة– على قواعد المحدّثين في الجرح والتعديل والتصحيح والتضعيف، وأثمر هذا الجهد صورة مغايرة تماماً لما كان يبدو لنا من قبل كحقائق مسلّم بها، مما تحفل به مختلف كتب السرد التاريخي غير الموثقة ولا المحققة من جهة المرويات، وابتعدت المؤلفة عما وقع فيه كثيرون في هذا المجال من تكلّف الاستنباطات والتأويلات، بل تشتغل بتنقيح وتنقية المادة التاريخية، مع توضيح المعطيات السياسية والفقهية والاجتماعية وقت الواقعة، والظن خيراً بأصحابها في مختلف تأوّلاتهم التي انبنت على عوامل لم يصلنا كلها، بل وما وصلنا فيه من الدخل والتشويه ما فيه.
وعلى فرض أن منهجها في تنقيح المرويات لم يحسم الخلاف حسماً كاملاً، فإنها كما تذكر الباحثة-على أقل تقدير- تضيق من نطاق الاختلاف، خاصة إذا ما تبين للكثيرين أن مساحة واسعة من الروايات التي تمّ الاستدلال بها، والتي زادت من حجم الاختلاف كانت روايات لا أساس لها من الصحة التاريخية. وهو ما يجعل مردود هذه الدراسة مجدياً في ميدانها التطبيقي على الممارسة السياسية الفعلية للمرأة المسلمة المعاصرة، وعلى حجم الجدل الدائر بشأنها، وتعدّ الباحثة الدراسة داخلة فيما يسمى "بتوظيف المباحث النظرية في الدور السياسي للمرأة"، بحيث يمكن أن تكون لها ثمرة علمية وعملية.
وتصرّح المؤلفة بجلاء أن أهداف هذا البحث تنطلق من أهداف البحث الإسلامي عامة، وأخلاقياته، التي تصفها بأنها "أهداف تدور مع مصالح المسلمين، ومحاولة دفع الضرر عنهم كيفما دارت هذه المصالح"، فهي ترى أن ما تقوم به من فروض الكفاية على المسلمين، ونرجو أنها بالفعل قد أبلت بلاء حسناً في ثغرة واسعة المدى، وتصدّت بنبرة هادئة ورزانة علمية لردّ تُهم ومفتريات وجّهت وتوجه إلى الإسلام ونظمه وأصحابه، عليهم جميعاً الرضوان.
ينقسم الكتاب لثلاثة أبواب، كل باب منها عدة فصول، والأبواب هي:
-ممارسة سياسة عامة للمرأة في العهد النبوي والراشدي، ويضم أربعة فصول.
-المرأة والجهاد على عهد النبي وعهد الخلفاء الراشدين، ويضم فصلين.
-الدور السياسي للمرأة في أحداث الفتنة على عهد النبي وعلى عهد أمير المؤمنين عثمان وعلي، ويضم ستة فصول.
الكتاب بديع وماتع بحق، وصالح للمطالعة العامة؛ لأنه لا يتكئ على اللغة الأكاديمية المقعرة، ولا على الإطناب والحشو الإنشائي، وقد تم إخراجه في طبعة "دار السلام" بهيئة وترتيب تغري بالمطالعة وتعين على الإفادة بحمد الله.
مع المؤلفة:
الباحثة أستاذة في قسم التاريخ والحضارة الإسلامية، في كلية دار العلوم بجامعة الفيوم، وهذا الكتاب هو البحث الذي تقدمت به لنيل درجة الماجستير عام (2000)، وقد ظفرت بها بتقدير "ممتاز".
-بطاقة الكتاب:
العنوان: دور المرأة السياسي في عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين.
المؤلف: أسماء محمد زيادة.
الناشر: دار السلام– مصر.
الطبعة: الثانية، 2001
عدد الصفحات: 568