لقد أصبح الاكتئاب ظاهرة معاصرة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، ظاهرة تجتاح الرجال والنساء والشباب، وأكثر من تجتاحهم الشباب، فهم الأرض الخصبة المهيئة لينبت فيها كل نبات .. الإلحاد والعنف والاكتئاب.
كتب أحد أصدقائنا المغتربين على منصات التواصل يوما: ذهب مغتربٌ مكتئب إلى طبيب نفسي مغترب فوجده مكتئباً.
فكتبت رداً عليه: فكتب عن ذلك لمواطنين غير مغتربين فوجدهم أكثر اكتئاباً.
وقد قال لي أحد الأصدقاء يوماً: أنا لا أستبعد أن يكون هناك شيء معين تعمد إليه الأنظمة العالمية العدوة للعالمين العربي والإسلامي من أجل نشر الاكتئاب بين العرب والمسلمين.
وذهب هذا الصديق بخياله الواسع إلى إمكانية أن يكون الأعداء ينشرون في الهواء شيئاً يستنشقه الناس فيكتئبون، ويكون ذلك نوعاً من أنواع الأسلحة البيولوجية والكيميائة.
ورغم غرابة طرح هذا الصديق، إلا أن سعي الأعداء بشتى الطرق لنشر الاكتئاب بين العرب والمسلمين أمر وارد جدا.
وبعيدا عن هذه النقطة، سنحاول هنا أن نعدد بعض الأسباب التي ساهمت في نشر الاكتئاب وجعله ظاهرة عامة عربية وإسلامية، يُخشى من طغيانها وتبعاتها.
1- البعد عن الله:
يقول الله تعالى: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا} [طه:124].
قاعدة أثبتها الله في كتابه، التلازم بين البعد عن الله تقصيراً في الطاعة واقترافاً للمعصية وبين الضنك، وهو الضيق في كل شيء كما تقول معاجم اللغة، وأشد هذا الضيق ضيق القلب والروح.
والواقع العام أن الشعوب العربية والإسلامية هي أبعد ما تكون عن الله؛ عبادة وسلوكا وتشريعا.
2- الواقع المعيشي الخانق:
كثيرة هي البلاد العربية والإسلامية التي تعيش واقعاً معيشياً ضاغطاً؛ اقتصادياً واجتماعياً.
والفقر من أكثر ما يفسد الحياة ويدمر النفوس والأرواح، وخصوصاً إذا وصل الفقر إلى حد العوز والحاجة للضروريات، وهذا هو ما وصل إليه الكثيرون في أوطاننا العربية والإسلامية.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الفقر، ويقرن بينه وبين الكفر، وذلك في دعائه: (اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، وأعوذ بك من عذاب القبر، لا إله إلا أنت) (رواه النسائي).
ونسب إلى علي بن أبي طالب قوله: (لو كان الفقر رجلا لقتلته).
3- الواقع السياسي الضاغط:
في ديكتاتورية طاغية يعيش المواطن العربي والمسلم، وفي فساد حُكمي تاريخي تعيش البلاد العربية والإسلامية.
لا سبيل لحرية ولا لعدالة في ظل أنظمة تعبد مصلحتها، ومستعدة في سبيل ذلك أن تضحي بكل شعوبها.
ولما أن تطلّع الشباب يوما لإنهاء هذه الحقبة المظلمة السوداء، وخرجوا في ثورات سلمية أذهلت العالم كله وأوقفته إجلالاً وتقديراً، تحايلت الأنظمة على الأمر، وحبكت مؤامراتها وخططها، فأحدثت المجازر التاريخية في بعض البلاد، واستعانت بجيوش خارجية على أبنائها وشبابها، حتى أحدثت حالة من الدمار في البلاد لم يحدث مثيلها، وحالة من القتل والتهجير للعباد لم يحدث مثيلها كذلك.
واستطاعت بعض الأنظمة الأخرى أن تعود بانقلابات عسكرية سريعة، قتلت وأعدمت فيها الآلاف، وهجرت عشرات الآلاف، واعتقلت عشرات الآلاف، وتطارد عشرات الآلاف.
واستطاعت أنظمة أخرى أن تعود للحكم بانقلابات سياسية ناعمة، لتعود للحكم ببعض رجالها الآخرين، فتتغير الوجوه ولا تتغير السياسات والتوجهات.
لقد رأى الشباب الحرية على الأبواب في ربيعهم العربي الثائر، فلما أرادوا أن يقطفوها قُنصوا وقُصفوا، فقُتل منهم من قتل، وبقي منهم من بقي في انكسار نفسي كبير، أحدث حالة من الخلل النفسي البائن.
لقد رأى الشباب الحرية على الأبواب في ربيعهم العربي الثائر، فلما أرادوا أن يقطفوها قُنصوا وقُصفوا، فقُتل منهم من قتل، وبقي منهم من بقي في انكسار نفسي كبير، أحدث حالة من الخلل النفسي البائن
4- الغرق في الواقع والتأثر به بدلا من متابعته والتأثير فيه:
في كتابه (الماجريات) يلفت المؤلف ابراهيم عمر السكران لما يحدث لعموم الشباب العربي والمسلم في زماننا المعاصر، حيث متابعة الواقع ومحاولة تغييره إلى حد الإغراق فيه والتأثر به.
وبدلاً من أن نسيطر نحن على واقعنا ونسيّره، يصبح هو المسيطر علينا والمسيّر لنا.
متابعة الحال العام السياسي والاجتماعي للأوطان والأمم شيء مطلوب ومحمود، وله ثوابه وأجره، وخصوصاً إذا ما تعدت هذه المتابعة إلى العمل من أجل إصلاح هذا الحال وتغييره والتأثير فيه.
وهذه المتابعة للحال العام والعمل له، لا يجب أن تطغى على متابعة الحال الشخصي الخاص والعمل له والإصلاح فيه.
كما أن الوضع الذي وصل إليه الشباب، حيث إضاعة كل الأوقات في هذه المتابعة والمناقشة للواقع العام، من غير أي عمل أو حركة، إنما يكون له أكبر الأثر في الضيق النفسي والدمار الروحي.
فدوام مشاهدة السواد والكلام حوله مع عدم محاولة تغييره يحوّل النفوس والحياة كلها إلى سواد في سواد .5_ الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي:
تلازمٌ عجيب حادث بين مداومة التعامل مع الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي وبين الضيق النفسي والاكتئاب الروحي.
هذا في رأيي للأسباب التالية:
- فكرة نفسية فلسفية مفادها: أن الوصول إلى حالة أن يجد الإنسان كل ما يطلبه يوصله في النهاية إلى الضيق النفسي والخواء الروحي.
فالحياة الدنيا قائمة على فكرة السعي من أجل إشباع الحاجات الحياتية، والتطلع الدائم إلى حاجات جديدة.
فإذا وصل إنسان يوما إلى حالة من القدرة على الوصول لكل حاجة يريدها، فهو يصل حينها إلى حالة وجودية مضطربة، غير الحالة الحياتية المثال التي خلق الله الناس عليها ومن أجلها.
فالقدرة على الوصول لكل حاجة لم تُخلق إلا في الجنة، ولم تخلق للدنيا قط، فإذا ما وصل إليها أحد في الدنيا فهي الطريق لاضطراب نفسي وخواء روحي ينذر بالكارثة، وهو ما يحدث في كثير من البلاد الأكثر ثراء، وللناس الأكثر ثراء.
شيء شبيه بذلك يحدث عند التعامل مع الإنترنت، فالتلفاز والمذياع والكتب، إنما تعطي الإنسان معرفة ومتعة محدودة بالمعروض، وليست على مراد المتلقي وبغيته.
أما الإنترنت، فهو يعطي للمتلقي ما يريده، وفي الوقت الذي يريده، مما يحدث حالة الإشباع والقلق النفسي مثلما شرحنا في السطور السابقة.
- وفي الإنترنت عالم من العري والإباحية والشذوذ، عالم طاغ ومسيطر على مشاهدات الناس ومتابعاتهم إلى حد كبير، ولا تنفع معه تربية دينية ولا التزام أخلاقي.
فالشهوة غريزة طاغية، وأن يمنع الإنسان نفسه عن مشاهد صورة إباحية أو مشهد إباحي _وهي تتراءى له كلما دخل إلى الإنترنت وكلما تنقل بين مواقعه وصفحاته_ شيء صعب جداً بل وشبه مستحيل.
تقول الإحصاءات إن مواقع العري والإباحية هي أكثر المواقع مشاهدة على الإنترنت، وتقول الإحصاءات إن أغلب المتعاملين مع الإنترنت شاهدوا أو يشاهدون عرياً وإباحية، أغلب المتعاملين رجالا ونساء.
وطبيعي أن تحدث هذه الإباحية، وأن تحدث متابعتها أو تساعد في هذا الضيق النفسي العام وهذا الخواء الروحي الكبير.
- وعلى الإنترنت كذلك مشاهد للعنف والقتل والإجرام، تُعرض ليلاً ونهاراً، في صور وفيديوهات، من الحروب والإرهاب الذي يضرب العالم كله.
وتأثير رؤية هذه الصور والمشاهد تأثير كارثي على النفوس والأرواح، ويحدث حالة من الضيق وكره الحياة، والخوف منها ومن المستقبل.
لقد توقفت من وقت بعيد عن مشاهدة أي صورة أو فيديو للمجازر والمحارق، وقد كنت أشاهدها قديماً مدفوعاً بالحزن على المسلمين والمظلومين في كل مكان، فلما رأيت التأثير السلبي لهذه المشاهدات، مع عدم القدرة على فعل أي شيء، عزمت على عدم مشاهدتها ثانية.
ومواقع التواصل الاجتماعي لها الدور الأكبر في ظاهر الاكتئاب التي نتحدث عنها .
فهي من ناحية تساعد على حالة الغرق في الواقع العام والتأثر به كما ذكرنا سابقاً.
كما أنها تضيع أوقات الشباب وأعمارهم في الكلام ومتابعته والرد عليه فيما لا طائل من ورائه غالبا، وهذا أصل في باب الضيق النفسي والاكتئاب.
وتسيطر على الشباب سيطرة غير طبيعية، إلى حد أن يقضي البعض كل نهاره وليله من أجلها، وهذا هو عين الدمار النفسي.
ولا ننسى هنا تأثير مواقع التواصل الاجتماع على الانطواء والانزواء، وضعف العلاقات الاجتماعية الحقيقية، وهذا هو عين الدمار الاجتماعي.