كن في الدنيا غريباً أو عابر سبيل!

الرئيسية » خواطر تربوية » كن في الدنيا غريباً أو عابر سبيل!
rsz_muslim-man-prays-

كثير من الناس اليوم يعيش هذه الحياة وكأنها أبدية، وقد نسي أنها تسير بخطوات منضبطة منتظمة إلى نهايتها الحتمية، ولو تفكرّوا بحال الحضارات البائدة والسابقين من الأولين والآخرين، وما آلت إليه حالهم وأحوالهم بعدما صاروا في باطن الأرض وقد كانوا على ظاهرها، ولو سألوا سكان القبور، لعلموا أنهم سكنوا القصور من قبلها؛ لتيقنوا أنها دار ممر وجسر عبور ليس إلا، بل هي مزرعتك التي سيأتي موسم الحصاد لتجني فيه ما قد زرعت.

وأكثر ما يؤكد أنّ الناس في غفلة من أمرهم هو الجزع الذي يحيط بهم ويطبق عليهم إذا ما أصابتهم مصيبة الموت أو غيرها من المصائب التي هي من طبيعة حال هذه الحياة، لقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [سورة البلد، آية:4]، وليس المراد الألم الذي من الطبيعي أن يشعر به الإنسان إذا ما أصابه مكروه، فهذا أمر لا ننكره، فقد تجرّع منه الكثيرون من صفوة البشرية (الرسل والأنبياء).

لكنّ كيفية التعامل مع هذه المصائب على أنها الطامّة والنهاية والتي لا ندرك ولا نقرأ رسائل اللطف الرباني بها، فلا تزعج فينا التثاقل إلى الأرض، ولا تنتزعنا من الذهول الذي يحيق بنا عن حقائق الوجود، والغاية منه لدرجة أن نسينا معه أمر آخرتنا ودنيانا، هذا حقيقة هو عين المصيبة الكبرى.

وينبهنا الرحمة المهداة للعالمين، ويرشدنا لكيفية التعامل مع هذه الحياة حتى لا تغرّنا الأماني، ولا نغرق في سباتنا فلا نستيقظ منه إلا بعد الفوات، وذلك لأن الناس نيام حتى إذا ما ماتوا انتبهوا، فيضع لنا دستوراً للتعامل مع هذه الحياة الفانية، فيقول صلى الله عليه وسلم: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) (رواه البخاري)، وقد ذهب "ابن رجب الحنبلي" في شرح هذا الحديث: "وصى النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر رضي الله عنهما أن يكون في الدنيا على أحد هذين الحالين:

الحال الأول: أن يترك المؤمن نفسه كأنه غريب في الدنيا، فيتخيل الإقامة لكن في بلد غربة، فهو غير متعلق القلب ببلد الغربة، بل قلبه متعلق بوطنه الذي يرجع إليه.

الحال الثاني: أن يترك نفسه في الدنيا كأنه مسافر غير مقيم البتة، وإنما هو سائر في قطع منازل السفر حتى ينتهي به السفر إلى آخره وهو الموت، ومن كانت هذه حاله في الدنيا فهمته تحصيل الزاد للسفر، فليس له همّة للاستكثار من طلب متاع الدنيا.

فإذا كانت هذه الوصية لصحابي جليل مثل ابن عمر، وهو ما هو عليه من بيئة وصحبة ومجالسة النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف لا نعض عليها نحن بنواجذنا والملهيات والمشتتات تصب علينا من كل صوب حدب، وتحيط بنا الفتن كقطع الليل المظلم! وكيف لمن كان حاله كحالنا أن يركن أو يطمئن لدار إما هو في سفر فيها، أو غريب عنها، لا يعلم متى يُخرجه منها صاحب الدار، فحريّ لمثل هذا أن يظلّ على أهبة وأتمّ استعداد للرحيل في كل لحظة.

كيف لمن كان حاله كحالنا أن يركن أو يطمئن لدار إما هو في سفر فيها، أو غريب عنها، لا يعلم متى يُخرجه منها صاحب الدار

لقد فقه السلف هذه الحقيقة، فما غابت عن بصائرهم ولا غفلوا عنها، فقد رُوي أنّ رجلاً دخل على أبي ذر فجعل يقلب بصره في بيته، فقال: "يا أبا ذر أين متاعكم؟"، فقال: "إنّ لنا بيتاً نتوجه إليه"، فقال: "إنه لا بدّ لك من متاع ما دمت ههنا"، فقال: "إنّ صاحب المنزل لا يدعنا ههنا"، وقد ورد أنهم سألوا بعض الصالحين بعدما قلّبوا بصرهم في بيته: "إنا نرى بيتك بيت رجل مرتحل!"، فقال: "لا أرتحل، ولكن أطرد طرداً".

فشتّان بين من يدرك غاية وجوده ومآل سعيه، وبين من ختمت الغشاوة على قلبه وسمعه وبصره، فالأول ينظر للدنيا على أنها السبيل، يسلكها إلى أهله ودياره، فلا تغرّه الواحات على جنباتها، وإنما يستريح لفترة يلتقط أنفاسه بها ثم يتابع سفره قبل أن يدركه غروب شمس عمره، وأما الآخر، فقد انشغل بزخرفها ولهوها، ونسي في حمأة فتوته ونشوته وقوته وجهته نحو دياره، فباغتته شمس المغيب وهو في غفلة عن أمره، فلا استفاد من طول سفره ولا وصل لبغيته.

وفي سعينا بين مكابدة أمر الدنيا والآخرة -فهذه تشدّنا بشهوات حفت بها خطواتنا، وتلك حفّت بعثرات المكاره والصعاب- يحذرنا ابن عمر رضي الله عنهما بعدما فهم وصية النبي صلى الله عليه وسلم له: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)، فيقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك" (رواه البخاري)، إذ ليس هناك أشد عداوة للإنسان من طول الأمل الذي يورث الكسل والخمول والركون لهذه الحياة التي مهما طالت أو امتدت إلا أنها لنهاية حتمية، وزوال أكيد، يقول عنها ربنا جل شأنه: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُور} [سورة آل عمران، آية:185]، وأنّ الحياة التي ينبغي أن نسعى لإعمارها تلك الدار التي قال عنها جل شأنه: {وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَار} [سورة غافر،آية:39].

واجعل من نصيحة "الفضيل بن عياض" الجمر الذي تتقلب عليه كلما هجعت على فراش الكسل والخمول، وناقوس الذكرى الذي يدق أبواب قلبك إذا ما أوصدتها الغفلة، واجعلها وقوداً لروحك وشرارة العزم فيك كلما أوشكت أن تركن أو تخلد لهذه الفانية، وانقش من حروفه على سطور ذاكرتك وسويداء قلبك إذ يقول: "فمن عرف أنه لله عبد وأنه إليه راجع فليعلم أنه موقوف، ومن علم أنه موقوف فليعلم أنه مسؤول، ومن علم أنه مسؤول فليعد للسؤال جواباً"، فأجاب عندما سُئل: فما الحيلة؟ قال: "تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى، فإنك إن أسأت فيما بقي أخذت بما مضى وما بقي".

نسألك اللهم الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد!

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة حاصلة على الدكتوراة في العقيدة والفلسفة الإسلامية من جامعة العلوم الإسلامية العالمية في الأردن. و محاضرة في جامعة القدس المفتوحة في فلسطين. كتبت عدة مقالات في مجلة دواوين الإلكترونية، وفلسطين نت، وشاركت في المؤتمر الدولي السادس في جامعة النجاح الوطنية حول تعاطي المخدرات. مهتمة بالقضايا التربوية والفكرية، وتكتب في مجال الروحانيات والخواطر والقصة القصيرة.

شاهد أيضاً

مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …