إن ما يعانيه المسجد الأقصى المبارك، لم يعد خافيًا على أحد، والأخطار المحدقة به ما كانت لتبلغ هذا المبلغ الخطير لولا أن إيماننا وأخلاقنا في خطر، ولولا تراجع خصوبة الأمة في إنتاج الرجال الذين تتوافر فيهم شروط الرجولة الصحيحة، ولعلّ المسجد الأقصى في هذه الأيام لا ينقصه مزيد من الشعارات، التي انتفخت بها الآذان وعجّ بها الفضاء.
من تلك الرؤية انطلق كاتبنا يبحث عن ضالته، وشدّ رحاله إلى المسجد الأقصى، فخالطت روحه نسماته المباركة، ولامست جبهته ترابه الطاهر، وناجى الله في محاريبه، ودرس على مصاطب العلم فيه، حتى سقط في الأسر، فلم تعقه القضبان عن التدوين لتعليم ما تعلمه في ذلك الصرح المبارك، فبدأ بكتابة ما بين أيدينا، ضارباً مثالاً للباحثين عن النصر، ما أرادوا لذلك سبيلًا.
-بين دفتي الكتاب:
حاول الكاتب خلال خمسة فصول الإجابة على سؤال "كيف ننصر المسجد الأقصى المبارك؟" بدراسة أسباب النصر السابق، وأسباب الانتكاس الحالي، واستعراض ما يمكن للمسلم تقديمه في سبيل تقدم الأمة ولو خطوة نحو التحرير.
الفصل الأول: "الانتصار في ميدان العقل":
يؤسس الكاتب لمفهوم ارتكاز العمل على المعرفة، مؤكدًا أن خطوة مدفوعة بعاطفة مفتقرة للعلم أفسدت أكثر ما أصلحت.
فصحح خلال هذا الفصل عشرة مفاهيم مغلوطة عن القدس، بادئًا بحملة تصحيح شيوع قبة الصخرة على أنها المسجد الأقصى، عبر نشر صورة المسجد القبلي ذو القبة الرصاصية، موضحًا فداحة المعلومتين، فالمسجد الأقصى هو الأسوار بكل ما بداخلها من مصليات، وقباب، ومحاريب، وأعمدة، ومصاطب، وساحات، بمساحة (144دونمًا)، وعدم إدراك تلك النقطة، يعني اختزال (95%) من مساحته الحقيقية.
وساق الكتاب معلومات هندسية عن الأقصى، توضح مماثلة بنائه للمسجد الحرام، وتعامد أقدم أسواره (السور الجنوبي) على الحرم، بشكل يجعل اتجاه البناء بالكامل متوجهًا للكعبة، وهو ما استنتج منه أن من بنى المسجد الحرام هو من بنى المسجد الأقصى، وأن ما ورد عن دور نبي الله إبراهيم تجاه المسجد الحرام، ونبي الله سليمان تجاه الأقصى، هو رفع قواعد لبناء متواجد بالفعل منذ بدء الخليقة.
وتدبر الكاتب وعد الله تعالى بميراث الأرض لعباده الصالحين، فلا ميراث لجنس أو قومية أو دين، ومن تلك النقطة انتقل لمكانة الأقصى لدى المسلمين، حيث قبلتهم الأولى لـ (14 عامًا)، مشيرًا لأهمية شدّ الرحال إليه والاعتكاف فيه، مراغمةً للعدو ورباطًا في سبيل الله.
الفصل الثاني: "الانتصار في ميدان الضمير"
استهله الكاتب بقول مؤسس الصهيونية "ثيودور هرتزل": "إذا حصلنا يوماً على مدينة القدس وكنت لا أزال حيًا، فسوف أدمر كل شيء ليس مقدساً عند اليهود"، وفي ظلّها ساق بعض جرائم التهويد في البلدة القديمة.
فتُرى محاولات قطع الرافد البشري عن المسجد المبارك، بسياسة الإبعاد، وبناء الكنيس حوله، وتنظيم المهرجانات، والاحتفالات التلمودية، في إطار مشروع "الحوض المقدس"؛ لإقامة مدينة الملك داوود -بحسب مزاعمهم-.
كما عمد الصهاينة بناء قبور يهودية وهمية، واستبدلوا بعض أحجار المدينة بأخرى ذات نجمة سداسية، وغيروا أسماء الشوراع، واستغلوا أنفاق التنقيب عن الهيكل المزعوم في الترويج للثقافة الصهيونية، عبر الإرشاد السياحي، فضلًا عن الاعتداء على المقابر الإسلامية، وبناء المتاحف والمتنزهات فوقها.
واعتبر الكاتب أن مساعي التهويد وما يصاحبها من اعتداءات على المسجد المبارك، وتضيق على أهل البلدة القديمة، ترويض للرأي العام الإسلامي والعربي؛ لتقبل ما هو أكثر سفورًا وخطورة من ذلك.
الفصل الثالث: الانتصار في معركة الأخلاق
استنطق الكاتب خلال هذا الفصل معالم المسجد، مستوحيًا منها المعاني التي تخلق في النفوس القوة الأخلاقية المطلوبة للمضي في درب التحرير.
فبقبة "يوسف بن أيوب" بدأ استعراض خطة التنمية الشاملة التي بدأها "عماد الدين زنكي"، وأكملها ولداه "نور الدين" و"صلاح الدين"، حتى وصلوا إلى القدس، فعملوا على تجديد العقيدة في الأمة بنشر الدعاة، ومحاربة البدع، ونشروا المدارس، وأصلحوا الاقتصاد بتشجيع التجارة، وإلغاء الضرائب والمكوس، وعزلوا القضاة الفاسدين، ونجحوا بسياسة ماهرة في توحيد بلاد المشرق الإسلامي، فخرج جيل جديد قادر على استردادالمقدسات.
وبقبة الصخرة خلق الكاتب تشبيهاً رائعاً، إذ اعتبر توسط مسجد الصخرة في ساحة الأقصى وميله إلى اليسار قليلاً، كموقع القلب في الجسد، مشيًرا إلى أن نقش آية الكرسي حول مسجد قبة الصخرة يرشد المسلم إلى سبيل حراسة قلبه، بإحاطته بالقرآن الكريم.
وتطرق إلى المصلى المرواني، حيث استخلص منه درس التاريخ "النصر حليف المبادر الجريء"، إذ تحول المكان خلال شهرين من اسطبل مهجور تجمعت فيه الأوساخ، إلى مصلى تزينه الإضاءات، وتفرشه السجاجيد، ويتسع لزوار بيت الله، بعد أن توحدت أيادي الفلسطينيين في إعماره، وتكاتفت الأمة في دعمهم، فتوفر الرجال المخلصون، وحفتهم العزيمة والإخلاص والتوكل، فدحروا كيد الاحتلال وأحبطوا تهديده بمصادرة المصلى.
الفصل الرابع: الانتصار في ميدان المعركة الاجتماعي
يمثل هذا الفصل امتداداً تطبيقيًا لفكرة سابقه، فيقول الكاتب: "إن المجتمع الضعيف الفقير الذي يعاني من الجهل والتمزق والانحلال الخلقي، والأمراض الاجتماعية والصحية، لن يتمكن من التصدي والمواجهة وحمل أمانة التحرير".
فمن مصاطب العلم في المسجد استخلص الكاتب أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في إصلاح حال الأمة، وذكرته تصدعات أعمدة الأساس في الأقصى بما يعانيه مسلمو اليوم من تصدع الثوابت الإيمانية في القلوب، واستلهم من أصوات خرير مياه السبل في الساحات، ورسوم الميزان على أحجار قبة الصخرة، أهمية التكافل الاجتماعي والعدل؛ لتماسك الأمة وتقويتها.
الفصل الخامس: خطوة باتجاه النهضة المقدسية
أعطى الكاتب خلال هذا الفصل خيارات عديدة لمن تعلقت قلوبهم بالأقصى، وأرادوا لنصرته سبيلًا، بدءًا من طبع صور المسجد والتوعية بمساحته الحقيقية ومعالمه المختلفة، مروراً بإنتاج الأفلام الوثائقية، والمجسمات، والتغطيات الإعلامية، وصولاً إلى شدّ الرحال والمرابطة فيه، وغيرها من الأعمال التي -مهما صغرت- تقرب المسلمون خطوة من طريق التحرير.
وختم الكاتب سفره الذي بين أيدينا بالتأكيد على أن المسجد الأقصى هو بيت الله المقدس، فليس مناأغير من الله على حرماته، فلو أراد عز و جل إرسال طير أبابيل تؤز أعداء المسرى، لما أعجزوه شيئاً، ولكن حكمته قضت أن يدفع الناس بعضهم بعضاً، فعلينا أن نكون جند الله في الأرض.
ونجح الكاتب في بث شحنة عاطفية قوية تجاه المسجد المبارك، محلاة بالمعلومات التاريخية والجغرافية عن المكان، بشكل يشعر القارئ بأنه يجوب في جنبات تلك الجنة على الأرض، ورغم انفصال العناوين عن محتوى فصولها، وضعف التنظيم في العرض، إلا أن ذلك لم يضعف هدف الكتاب، ولم ينقص من تأثيره الرائع على وجدان القارئ.
- مع المؤلف:
-الباحث "محمد وصفي الجلاد" -أبو الحسن- من أبناء مدينة طولكرم، انتقل للاعتكاف في المسجد الأقصى لتلقي العلم على يد أئمته.
-تعرض للأسر في سجن مجدو عام (2011)، وبدأ فيه بتدوين كتابه " كيف ننصر المسجد الأقصى؟" إلى أن نال حريته، واستطاع ضبط كتابه ونشره.
-له بعض الأوراق البحثية المتعلقة بدور المسلم تجاه القدس، منها كتاب "كن أقصى يمشي على الأرض"، بالإضافة لمقاطع الفيديو التوعوية بعنوان "من هنا نبدأ وفي الأقصى نلتقي".
-بطاقة تعريف:
المؤلف: محمد وصفي الجلاد.
تقديم: ناجح بكيرات.
دار النشر: الرسالة المقدسية للطباعة والنشر والتوزيع.
الحجم: 174 صفحة.
سنة النشر: 2013.