يقول الله تعالى في مُحْكَم التنزيل، مخاطبًا بني إسرائيل: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سُورة "البقرة"– الآية: 74].
وفي القرآن الكريم نجد أيضًا أن قسوة القلب هي صورة من صور عقاب الله تعالى لعباده الظالمين، ففي حديث قرآني آخر، يقول الله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [سُورة "المائدة"- الآية: 13].
ونحن إذ نُطالع الآن ما يجري من حولنا من انتشار للموجات الإلحادية، أو الصورة الأقل حدَّة، من انفلاتٍ عن الدين وضوابطه، وابتعاد بعض الناس عن التديُّن؛ فإننا نقف أمام العديد من الأسباب، وعلى رأسها نقطة القسوة هذه التي يعكسها بعض دعاتنا أو تربويينا، تحت مبررات واهية تتنافى مع صميم جوهر وروح هذا الدين العظيم، ومع الله عز وجل ذاته.
وأول خطيئة وقع فيها هؤلاء البعض، هي الانتقاص من الخالق، والاجتزاء من القرآن الكريم، بحيث نقف أمام صورة غير سوية وغير صحيحة عن "إلهٍ غضوب"، لا يفعل أي شيء سوى العقاب، وإلقاء الناس في النار، وتعذيبهم بذنوبهم، مع تصدير القرآن الكريم على أنه كتاب عقاب وشنآن فحسب، بينما الصورة مختلفة بطبيعة الحال كما نعلم.
وعلى أبسط تقدير، يتنافى ذلك مع الخطاب الدعوي للرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، والذي من المفترض أنه وسيرته هو ما يجب أن نسير عليه كنموذج تطبيقي لحياة المسلم في كل شيء، أو ما يُطلق عليه في العلوم السياسية والاجتماعية بـ"النموذج التفسيري" لنصوص القرآن الكريم ذات الطابع العام.
ونعلم أنه قد بُعِثَ "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، وكان في عصره الجاهلية في أجلى صورها. جاهلية حقيقية، في قومه، وفي بلاد العرب، وفي العالم أجمع، لكن لم يثبت عنه أنه "عليه الصلاة والسلام"، مطلقًا، أنه قال لأحدٍ في وجهه: "أنت منافق"، أو "أنت كافر"، أو "أنتم قوم على جاهلية"، بل قال "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم": (اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون).
لم يثبت عنه أنه "عليه الصلاة والسلام"، مطلقًا، أنه قال لأحدٍ في وجهه: "أنت منافق"، أو "أنت كافر" علماً أن الجاهلية كانت جاهلية حقيقية، في قومه، وفي بلاد العرب، وفي العالم أجمع
وفي موقف آخر، كان عمرو بن هشام (أبو جهل)، يؤذي النبي "عليه الصلاة والسلام"، بينما كان "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" يقول: (اللهم أعزَّ الإسلام بأحبِّ هذَيْن الرجلَيْن إليك) في إشارة إلى عمرو بن هشام، وعمر بن الخطَّاب (رضي الله عنه) [أخرجه أحمد والترمذي وقال: صحيح غريب].
وحالة عمر نفسه ملفتة للانتباه، فهو كان من ألدّ أعداء الدعوة، ثم أسلم، وصار أحد عظماء تاريخ الإسلام والإنسانية بالكامل.
والمواقف في ذلك كثيرة من السُّنَّة النبوية، التي دعا فيها الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، بهداية الضالين، ولم يستجب لعصبيات القوم، أو لبواعث ذاتية، مثلما دعا لدَوْسٍ بالهداية.
فعندما جاء الطُّفَيل بن عمرو (رضي اللهُ عنه) إلى الرسول "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، وقال له: "إن دَوسًا قد هلَكَتْ، عصَتْ وأبَتْ، فادعُ اللهَ عليهِم". فقال عليه الصلاة والسلام: (اللهم إهد دَوسًا وأتِ بهم) [أخرجه البخاري].
وفي منطق هؤلاء -الذي صرف الكثيرين عن الدين- اعوجاج كبير عن سُنَّة الله تعالى في حساب خلقه.
فالله سبحانه لم يخلقنا لكي يترصَّد لنا، ولم يخلقنا لكي يعذبنا، وإلا لتوفانا عند أول خطيئة نرتكبها؛ لكي يعذبنا بها، أو خلقنا في العذاب المهين مباشرةً .والله تعالى أكبر وأعظم من أن يكون مترصِّدًا لنا ولخطايانا؛ لكي يعاقبنا بها، بل إنه خلقنا لكي نخطئ ونخطئ، وهو يغفر، ويُمهِل.
وذلك فيه الكثير من الحِكَم الإلهية البالغة، منها أن نفهم أن من قوانينه، أننا ناقصون، وهو وحده الكامل، وذلك لعلمه بما سوف يجلبه العقل من غرور للإنسان، وأن نعلم أننا نقع في الخطأ والمعصية، وهو الغفور الرحيم، وأن نفهم كيف هو كبير وعظيم لكي يرحم ضعفنا، وما خلقنا وجبلنا عليه من عوارض ونزوات.
على أقل تقدير، أن نعلم أن طريقة تلقِّيه لأعمالنا، وتقييمه لأخطائنا، أرحم بكثير، ومختلفة عن الصورة الساذجة التي يضعها البعض لأنفسهم ويعيقون بها الآخرين نفسيًّا وماديًّا.
فهو لا يعاملنا بالقطعة، وإلا ما خلق لنا أعمارًا، نقوم فيها ما نقوم، قبل أن يحاسبنا على مجمل أعمالنا... يقول تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [سُورة "المُلْك"- الآية: 2].
فهو هنا في هذه الآية ذَكَر "الحياة" كاملةً كمسار لاختبار "عمل" الإنسان، ولم يقل سبحانه أنه سوف يحاسبنا على فعل واحد في نقطة زمنية واحدة وكفى، كما قلنا.
وفي القرآن الكريم نجد أنه عندما يتكلم عز وجل عن ذاته العَلِيَّة كشديد العقاب، أو يتكلم عن غضبه؛ فلابد أننا نجد أنه يذكر الرحمة والحكمة؛ لأن العقاب من دون حكمة، سيكون فيه ظلمٌ، وهو سبحانه منزه عنه، وقال إنه حرَّمه على نفسه كما في الحديث القدسي.
وحتى بعد ذلك، فإنه ثابت من القرآن والسُّنَّة النبوية أن الجنة ليست ثمن العمل الصالح، الجنة هي برحمته عز وجل!
فالرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، أخبر في الصحيح أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله، حتى هو "عليه الصلاة والسلام"، ولكننا سوف ندخلها برحمة الله عز وجل.
ففي صحيح "مسلم"، قال "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم": (لَنْ يُنْجِيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَله)، قالوا: "ولا أنت يا رسول الله؟" قال: (ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه بفضل ورحمة).
والله تعالى أكبر وأعلى وأعظم من كل صغائرنا، ونحن في الأصل بأعمارنا الصغيرة، وأحجامنا الحقيرة، مقارنة بأزليته وأبديته، وبعِظَم ملكوته- لا نساوي أي شيء، لا في ملكوته، ولا في عمر كونه؛ حتى نقسو على أنفسنا والآخرين بهذه الصورة.
بل إن من رحمة الله عز وجل بنا، أنه يستر علينا عيوبنا وخطايانا، ويمهلنا، ويتركنا، بل ويمنعنا –لو عَلِمَ فينا خيرًا، وكنا له من الذاكرين الشاكرين في أحوالنا– من أن نرتكب المعصية في كثير من الأحيان.
من رحمة الله عز وجل بنا، أنه يستر علينا عيوبنا وخطايانا، ويمهلنا، ويتركنا، بل ويمنعنا –لو عَلِمَ فينا خيرًا، وكنا له من الذاكرين الشاكرين في أحوالنا– من أن نرتكب المعصية في كثير من الأحيان
ودليل صحة هذا الكلام أن الله تعالى هو الذي يلهمنا التوبة، وهو الذي يلهمنا حمده وذكره واستغفاره، فيتوب علينا، ويرحمنا، ويسترنا... يقول سبحانه: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [سُورة "التوبة"– من الآية: 118]، ويقول في سُورة "البقرة": {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} [من الآية: 272].
وفي هذا الإطار، فإنه من بين القواعد المهمة التي يحاسب الله تعالى بها عباده، ولا نفهمها، أن الله تعالى خلق درجات للحساب، ومن ثَمَّ العقاب، مثل ما يكون في الدنيا، وما يكون في الآخرة، أو بحسب تدرُّج الخطأ من الصغائر والَّلمَم، وصولاً إلى الخطايا الكبرى، والتي منها القتل والزنا.
ومن بين معايير المحاسبة، ما يخص الله عز وجل من أخطاء وذنوب وخطايا، وما يخص العباد والخلق .
ففي الأولى قد يمهل الله عز وجل، فنحن لن ننقِص أو نزيد في قَدْره تعالى، وطاعاتنا أو معصيتنا لا تنقص أو تزيد في مُلك الله تعالى وجلاله وعزته، أما في الثانية، فقد شدد الله سبحانه؛ لأن حقوق الله تعالى لا يمكن لمخلوق أن يمسّ بها، أما حقوق العباد الضعفاء، بما في ذلك الحيوان الأعجم، فإن الله تعالى تصدى لحمايتها.
وفي أحاديث أخرى عن الخطايا الكبرى نجد منها عقوق الوالدَيْن، وقول الزور وشهادة الزور، وكلها أمور تخص حقوق العباد.
ومن ضمن قواعد ربّ العزة في محاسبتنا كذلك، فيغفر أو يعاقب كما يشاء- قضية التكرار، والإصرار عليه، بمبدأ {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اَللهُ مِنْهُ} [سُورة "المائدة"– من الآية: 95]، وكذلك قوله تعالى: {مَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [سُورة "البقرة"– من الآية: 275]، وخاصة لو كان الأمر يخص خطيئة كبرى.
يرتبط بذلك المجاهرة بالمعصية، والتفاخر الذي يقول بغرور الإنسان، وبأنه لا يخاف الله عز وجل، وهو شكلٌ من أشكال الكفر بالخالق، الذي جزء من إيماننا به، أن نهابه ونخشاه، وفيه -كذلك- ما فيه من إفساد الآخرين.
وحتى في هذه الأمور قد تشاء حكمته سبحانه، أن يغفر لنا فيها، حتى الشرك والكفر به -والعياذ بالله- تُغْفَر في الدنيا لو آمن الإنسان وتاب وعمل صالحًا.
وهذا كله أكَّد عليه القرآن الكريم، فإن الله تعالى فقط هو صاحب المحاسبة، وهو الذي يغفر ويثيب، أو يعاقِب، وليس لبشر أن يقوم بذلك، وعلى كثرة الآيات في هذا الأمر، نقف أمام الآيات الخواتيم لسُورة "الغاشية" لشمولها، يقول عز وجل: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ(21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ(22) إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ(23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ(24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ(25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ(26)}.
وبعد فهذه ليست دعوة لتسهيل الخطيئة وتبسيطها، ولكننا وفي ظل ما نجده من أحوال مؤسفة في موضع الدين، وفكرة التديُّن بشكل عام في نفوس الإنسانية، ومجتمعاتنا العربية والمسلمة على وجه الخصوص -نجد أن أهم إصلاح ينبغي في الخطاب الديني، أن نركِّز على خطاب الأمل في الله تعالى، والطمع في غفرانه وعفوه، وفي واسع رحمته.
نعلم أنه ينبغي أن ندعو ربنا رغبًا ورهبًا كما يقول القرآن الكريم، لكن وكما نزل القرآن الكريم ذاته فرقانًا في مواقف ومناسبات، أجد أن خطابنا الدعوي في هذه المرحلة، يجب أن يكون في غالبيته فيه الكثير من الحديث عن رحمة الله تعالى، وعن غفرانه؛ لأن هذا ما تتطلبه المرحلة، مثلما فعل اللهُ تعالى، عندما أنزل النصوص، ونسخ أخرى، وفق ما كانت تتطلبه المرحلة.
يجب أن يكون خطابنا الدعوي في هذه المرحلة في غالبيته فيه الكثير من الحديث عن رحمة الله تعالى، وعن غفرانه؛ لأن هذا ما تتطلبه المرحلة
وبما أن علم اللهِ تعالى سابق ومحيط، وكان يستطيع أن ينزِلَ القرآن الكريم تامًّا من دون هذا النسخ؛ فإنه بالتأكيد، كانت له حكمة بالغة من نسخ بعض الآيات وتركها في النص القرآني، ونسخ البعض الآخر مع حذفها من النص القرآني، وإنساء الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" إياها.
ومن ذلك أن يعلمنا أنه "لكل مقام مقال"، وأن سُنَّة حياة الناس، التغيُّر والتغيير، وأن كل مرحلة من مراحل هذا التغيُّر والتغيير بحاجة إلى خطاب مختلف، وطريقة تعاملٍ مختلفة مع مفردات كل مرحلة من هذه المراحل.
وأخيرًا فإننا يجب أن نعلم، أننا في هذه الدنيا مُمْتَحنون، ولكن كذلك امتحاننا هذا رهين بضعفنا، والله تعالى يعلم مَن خَلَق وهو اللطيف الخبير كما في القرآن الكريم، وخلقنا على هذه الحالة لأسباب وحِكَمٍ بالغة، منها أن تتحقق أسماء وصفات لله عز وجل، التي منها أن يكون "قيومًا"، و"غفورًا"، و"رحيمًا"، و"لطيفًا"، فنحن ضعفاء ونخطئ؛ لأن الله تعالى قيوم على أمورنا ويدبرها، وغفور لما أتينا وأذنبنا.
إننا بحاجة إلى دراسة أكثر عمقًا وفهمًا! إننا بحاجة إلى أن نعرف الله حقًّا!