يتفق المسلمون أن الله تعالى مستحق لصفات الكمال والجلال، وأنه سبحانه منزَّه عن النقائص، ولا أعلم في أهل الملّة اليوم من يقول إن ذات الله كذوات خلقه، أو صفاته كصفاتهم، إلا ما يُرمى به مثبتو الصفات من تهمتي التشبيه والتجسيم، وهي فرية تتكئ على لازم القول، مع أن لازم المذهب ليس بمذهب كما هو مقرر عند أهل العلم.
ومن غرائب القدر؛ أن الأشاعرة الذين يرمون السلفيين بالتشبيه والتجسيم؛ ترميهم المعتزلة بمثل ما رموا به إخوانهم السلفيين، مع أن جميع المذكورين يَبْرؤون إلى الله من ذلك، ويلتزمون قصد التنزيه في أقوالهم جميعها.
ومن الغريب أيضاً؛ أن أكثر الأشاعرة يستسيغون أن يكون في مبحث الصفات مذهبان؛ التفويض والتأويل، أما المفوّضون من الأشاعرة فيرفضون أن يُقال إن التأويل تعمق مذموم في دلالة النص، قد يُفضي إلى وصف الله تعالى بما لم يُرِدْه. وأما المأوِّلون منهم فيرفضون أن يُقال إن التفويض تعطيلٌ لدلالات الكتاب والسنة، ومعارضة لكون القرآن نزل بلسان عربي مبين.
ولكن؛ حينما يتعلق الأمر بمذهب السلفيين في الصفات؛ فإن هؤلاء الأشاعرة يشنعون عليهم، ويصفونهم بالمشبهة والمجسمة والحشوية، وكل هذا لأنهم أثبتوا لله تعالى صفات "توهم" التشبيه، كاليد والوجه وعلو الذات، مع أن إثبات السمع والبصر ورؤية الله تعالى يوم القيامة "يوهم" ما وصفوه بـ"التشبيه"، فكان ماذا؟!
قد يعاجلني بعضهم بالقول إن إثبات الصفات الذاتية لا "يوهم" التشبيه كما قلت، فلا أملك إلا أن أقول له: بل يوهم ولو بقدر مشترك من الصفة، فأنت تسمع الصوت الصادر من العصفور مثلاً، والله يسمعه في الوقت ذاته، ألا يوهم ذلك تشبيهاً؟!
ولا تقل كما قال لي أحد إخواننا الأفاضل من الأشاعرة: "إن سمع الله تعالى هو إحاطته بالأصوات، وليس سمعاً بالمعنى المتبادر للذهن من كونه سمعاً بآلة"، فإدراك المسموعات بالأذن هو إحاطة بها، فالخالق سبحانه أحاط بهذا الصوت، والمخلوق أحاط به.. ألا يوهم هذا تشبيهاً؟! أم أن الشَّبَه في "الإحاطة" غير الشبَه في "السمع"؟!
ويكفي أن تطالع إلزامات المعتزلة للأشاعرة في مبحث رؤية الله تعالى يوم القيامة، وردود الأشاعرة عليها، حتى تعلم أن إلزامات الأشاعرة للسلفية ليست ذات قيمة، وخصوصاً أن السلفية تنفي هذه الإلزامات، وتنزه الله تعالى عن مشابهة خلقه.
وفي المقابل؛ فإن احتكار أكثر السلفيين للحق في هذه المسألة، ورميهم أصحاب المذاهب الأخرى جُملةً بالمبتدعة والفرق الضالة؛ ضربٌ من المجازفة التي يعوزها الإنصاف ، فالأشاعرة -مثلاً- ليسوا دخلاء على الأمة، ففيهم من العلماء والفقهاء والمحدثين والمفسرين ما يعسر إحصاؤه، وكما أن في السلفيين علماء أجلاء، كابن تيمية وابن القيم وابن كثير، ففي الأشاعرة مثلهم، كابن حجر والنووي والغزالي.. والأمة التي لا تقدّر علماءها ولا نتاجهم العلمي، بدافع التعصب لمذهب فقهي أو عقدي؛ أمة لا تستحق التقدم ولا التمكين.
ومن الغرائب في هذا الباب أيضاً؛ أن المصنفين في علم العقائد يُدرجون أسماء الله وصفاته في مبحث واحد، هو مبحث الأسماء والصفات، ولا يُلقون بالاً للخلاف الواقع في تفسير أسماء الله تعالى، بمعنى أنه لم يُفسد للود قضية عندهم، مع أن الخلاف في تفسيرها يصل أحياناً حد التعارض الذي لا يمكن معه الجمع أو التوفيق بين مختلف الأقوال. ولكن الأمر يختلف حين يقع الخلاف في "الصفات"، حيث تبدأ المعارك والخصومات التي تستخدم فيها أشنع الصفات وأقذع العبارات، ولا أدري كيف اتسعت صدور هؤلاء قبل قليل للخلاف في "الأسماء" لتضيق حتى تكاد تختنق حين وصل الخلاف إلى "الصفات"!
إن دوافع المختلفين في مبحث الصفات واحدة، فكلهم يروم تنزيه الله تعالى، ويسعى إلى تحقيق مقاصد شريعته، ويخشى من فهم كلامه سبحانه على خلاف مراده، مع تحقيقهم جميعاً أصل الدين الذي يُنجي من العقوبة الأبدية يوم القيامة، فهم يؤمنون بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، ويشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويصلّون ويصومون ويزكون ويحجون البيت ما استطاعوا إليه سبيلاً، أتظن بعد ذلك أن الله تعالى لا يعذرهم ولا يرحمهم حين يقع خلاف بينهم في فهم آيات ظنية في دلالاتها؟
إن دوافع المختلفين في مبحث الصفات واحدة، فكلهم يروم تنزيه الله تعالى، ويسعى إلى تحقيق مقاصد شريعته، ويخشى من فهم كلامه سبحانه على خلاف مراده، مع تحقيقهم جميعاً أصل الدين الذي يُنجي من العقوبة الأبدية يوم القيامة
إنْ قلتَ "يعذرهم" فلماذا لا تعذرهم ولا ترحمهم وتصفهم بالمجسمة والمشبهة، أو بالمعطلة والمحرفة؟!
وإنْ قلتَ "لا يعذرهم" فكيف يستقيم هذا مع قوله سبحانه: "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" وقد بذلوا كل وسعهم قاصدين معرفة مراد الله تعالى والالتزام به؟! ألا ترى أنك بقولك تنسب إلى الله تعالى التناقض والظلم، حاشاه سبحانه.
أعلم أن الصفاقة قد تصل بأحدهم مبلغاً يقول فيه: إن ربنا الذي نؤمن به ليس ربهم؟ فنحن نؤمن برب منزَّه عن المكان والزمان والجهة والحد، وأما رب أولئك فهو في السماء فوق العرش بذاته!
أو قد تصل السماجة بآخر إلى القول: إن ربنا غير ربهم، لأننا نؤمن برب فوق العرش بذاته، وله يدٌ على الحقيقة لا تشبه أيدي المخلوقين، أما أولئك فقد جحدوا صفات الله، ووصفوه بالعدم، فجعلوه غير متصل بالخلق ولا منفصل عنهم، ولا داخل العالم ولا خارجه!
يا للخيبة! أمة إذا تقدمها سلفيٌّ للإمامة في الصلاة؛ وقف خلفه الأشعري والمعتزلي والإباضي والصوفي والإخواني والتحريري والتبليغي والجهادي، إذا كبّر كبروا، وإذا ركع ركعوا، وإذا سجد سجدواً، حتى إذا أخطأ فلم يجلس للتشهد الأول مثلاً؛ نبهوه، فإذا لم يتنبه تابعوه على خطئه، فإذا سجد للسهو سجدوا معه رغم أنهم لم يسهَوا.. فإذا ما سلّم إمامهم؛ سلّموا ثم عادوا إلى تفرقهم وقولهم: ربنا غير ربهم، وديننا غير دينهم، وعقيدتنا غير عقيدتهم!! عجبٌ عجب!
ولست أدري؛ إلى متى يبقى مبحث الصفات سبباً للخصومة والتباغض بين المؤمنين الذين وصفهم الله تعالى بأنهم "إخوة"؟ وهل أراد الله تعالى من إعلامنا بأسمائه وصفاته أن تتنافر قلوبنا، وتتطاول ألسنتنا على بعضنا البعض؟ هل أراد أن نبدد أموالنا وأوقاتنا وجهودنا على الخلاف في معانيها ومعاني معانيها؟! هل أراد أن نستقوي بالأنظمة التي لا تقيم لشريعة الله وزناً على بعضنا البعض لمجرد أننا اختلفنا في فهمها إلى مذاهب يحتملها النص؟!
بالطبع؛ سيقول بعض الطيبين أو المتعصبين: "هذا كلام فارغ؛ فلا يمكن أن نلغي الخلاف في مبحث الصفات".. وهل ثمة إشارة فيما مضى إلى السعي لإلغائه؟ وهل يستطيع كل سلاطين الدنيا بقوتهم وجبروتهم أن يحققوا ذلك؟ وهل يقدر علماء الدنيا وفقهاؤها وهيئاتها واتحاداتها العلمية أن يسقطوا هذا الخلاف أو ينهوه؟!
إن ما سبق ليس سوى دعوة إلى إدارة الخلاف بما لا يوقع في المحظور؛ من خصومة وتباغض وتحاسد وتنابز بالألقاب، وغلوٍّ يُفضي إلى التضليل أو التبديع أو التكفير..
هي دعوة لتوجيه طاقات الأمة وأموالها إلى ما ينفعها ويرد عنها عادية الطغاة والمحتلين والساعين إلى تغريب الأمة وتجهيل شبابها، بدل الانشغال في معارك جانبية ليس فيها منتصر سوى أعدائنا الذين يتلهون بتمزيقنا ، ويمتعون أنظارهم وأنفسهم بتحنيط عقولنا بخلافات الماضي، بينما العالم يتقدم.إن ما سبق ليس سوى دعوة إلى إدارة الخلاف بما لا يوقع في المحظور؛ من خصومة وتباغض وتحاسد وتنابز بالألقاب، وغلوٍّ يُفضي إلى التضليل أو التبديع أو التكفير
ورحم الله الإمام الشاطبي القائل في "الاعتصام" (3/118): ".. ومن أشدّ مسائل الخلاف - مثلاً - مسألة إثبات الصفات، حيث نفاها من نفاها، فإنا إذا نظرنا إلى مقاصد الفريقين؛ وجدنا كلَّ واحد منهما حائماً حول حمى التنزيه، ونفي النقائص، وسمات الحدوث، وهو مطلوب الأدلة، وإنما وقع اختلافهم في الطريق، وذلك لا يُخلّ بهذا القصد في الطرفين معاً، فحصل في هذا الخلاف الشَّبَهُ الواقع بينه وبين الخلاف الواقع في الفروع".
والله الهادي إلى سواء السبيل..